الخميس، 24 نوفمبر 2011

د. على جمعة مفتى الجمهورية يكتب: من أدوات بناء الحضارة: الطعام الطيب

من أهم أسباب شيوع سوء الأخلاق فى المجتمعات والحضارات الإنسانية سوء الطعام، والنبى صلى الله عليه وسلم يقول: «أطب مطعمك تكن مستجاب الدعاء» (رواه الطبرانى فى الأوسط) وهو حديث مكون من مقطعين، الأول ـ وهو لب كلامنا الآن ـ «أطب مطعمك»، وهو أمر يطلب فيه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أن يطيب الإنسان مطعمه، وهو أحد الإرشادات النبوية الجامعة التى تندرج ضمن القواعد الأساسية لبناء الحضارة وتحقيق رخاء المجتمع، ويمكن للإنسان أن يطيب مطعمه على ثلاثة مستويات: مصدر الطعام، ونوعه، وسلوك تناوله.

وعن المستوى الأول، يجب أن يكون مصدر الطعام حلالاً، ومعنى هذا أن يكون مصدر الدخل حلالاً ليس فيه شىء من الرشوة أو السرقة أو الاختلاس أو الاغتصاب أو التدليس أو الغش، ويكون أيضاً بعيداً عما حرم الله من المطعومات كالخمر والخنزير والميتة والدم المسفوح، قال تعالى: (قُل لاَّ أَجِدُ فِى مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) (الأنعام: ١٤٥).

بل إن قصة آدم عليه السلام فى القرآن بينت نكد أكل الطعام المخالف وجعلته سبباً للطرد من الجنة قال تعالى: (فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَآنَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ. قَالَ اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِى الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ) (الأعراف: ٢٢-٢٤). وقال الحسن البصرى، رضى الله تعالى عنه: «كانت بلية أبيكم آدم أكله، وهى بليتكم إلى يوم القيامة»، فإن كان الطعام من مال حلال، وهو مما أحل الله من المطعومات دخل الطاعم حد استجابة الدعاء، ومن ثم أصبح قادراً على رؤية الأمور من منظور سليم وتقييمها ببصيرة جلية واتخاذ القرارات المناسبة لإصلاح المجتمع وإعمار الكون.

أما المستوى الثانى، فهو أن يكون الطعام نفسه طيباً فى مذاقه، وفى إعداده، والذى يطلب هذا النوع من الطعام هو رقيق القلب، رهيف الحس، لا يدفعه الجوع لملء البطن دون تلذذ بالتذوق والاستحسان، وهى صفة نراها فى قوله تعالى عن أهل الكهف بعد بقائهم ٣٠٩ سنين فى سبات ونوم: (فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَاماً فَلْيَأْتِكُم بِرِزْقٍ مِّنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً) (الكهف: ١٩)، فلم يدفعهم الجوع إلى طلب أى أكل ولو كان حلالاً فى ذاته، وفى مصدره، بل طلبوا أن يكون مرتبطا بأنه الأزكى، ثم تشير الآية إلى كمية الطعام وأنها برزق منه، ولم يقولوا فليأتكم به، وهنا نرى العلاقة مع الطعام نتيجة تزكية النفس، ونرى فى حديث رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أن تزكية النفس من طيب المطعم حيث ذكر: «الرجل يطيل السفر، أشعث، أغبر، يمد يديه إلى السماء: يا رب، يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذى بالحرام، فأنى يستجاب له» (رواه مسلم).

وأما المستوى الثالث فيختص بآداب تناولنا الطعام لما لها من أثر فى حياتنا اليومية بجميع جوانبها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وهذه الضوابط المأخوذة من القرآن والسنة تشكل عناصر مهمة فى البناء الحضارى للمجتمع الإسلامى بل والبشرى، ومنها:

١- قوله تعالى: (وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) (الأعراف: ٣١)، فالكم مهم ينظمه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فى الحديث الذى يرويه المقدام بن معدى كرب، حيث قال: «ما ملأ آدمى وعاء شراً من بطنه، حسب ابن آدم ثلاث أكلات يقمن صلبه، فإن كان لا محالة فثلث طعام، وثلث شراب، وثلث لنفسه» (رواه النسائى والبيهقى فى الشعب والحاكم فى المستدرك واللفظ له)، ويدرك السلف الصالح هذا المعنى فيقول ابن ماسويه الطبيب لما قرأ هذا الحديث: «لو استعمل الناس هذه الكلمات لسلموا من الأمراض والأسقام، ولتعطلت المارستانات ـ أى المصحات ـ ودكاكين الصيادلة». ويقول المروزى للإمام أحمد بن حنبل: «هل يجد الرجل فى قلبه رقة وهو شبع؟ قال: ما أرى ذلك»، وقال إبراهيم بن أدهم: «من ضبط بطنه ضبط دينه، ومن ملك جوعه ملك الأخلاق الصالحة، وإن معصية الله بعيدة عن الجائع، قريبة من الشبعان، والشبع يميت القلب».

٢- بل جعل الله سبحانه وتعالى الإطعام طريقاً لتكفير الذنوب واشترط أن يكون من أحسن الطعام وأعلاه، قال تعالى فى كفارة اليمين: (فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ) (المائدة: ٨٩)، وأوسط معناها أعلى، كما فى قوله تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) (البقرة: ١٤٣)، بل لابد أن يكون حلالاً له مذاق وهو من أحسن ما يطعم الإنسان به أهله.

٣- وسن لنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، آداب الطعام، وأجملها فى التؤدة والتمهل فى الأكل، وعدم العجلة والإسراع فيه، فقال لابن عباس رضى الله عنه: «يا غلام، سم الله، وكل بيمينك، وكل مما يليك» (أخرجه البخارى ومسلم) وقال صلى الله عليه وسلم: «من أكل طعاماً، فقال الحمد لله الذى أطعمنى هذا ورزقنيه من غير حول منى ولا قوة، غفر له ما تقدم من ذنبه» (رواه أحمد وأبوداود والترمذى والحاكم).

علينا إذن أن نرجع إلى الطعام الحلال ونتخير الطعام الطيب ونضبط سلوكنا فى تناوله، فنصبح بذلك قادرين على القضاء على الشر فى أنفسنا، وعلى الفساد فى مجتمعاتنا، وعلى الاختلال فى العالم وهذه دعوة قد يراها بعضهم بعيدة عن قضية بناء الحضارة إلا أنها جزء لا يتجزأ منها، فالطعام الطيب جزء من نفسية المسلم الطيب القادرة على بناء حضارة عادلة تستمر وتبقى على نقائها عبر الأجيال.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق