الخميس، 13 أكتوبر 2011

من أدوات بناء الحضارة: الأمة الواحدة بقلم د علي جمعه

من مقتضيات بناء الحضارة تأصيل مفهوم الأمة الواحدة فى العقول، فبناء هذا المفهوم يشمل القواعد الفكرية اللازمة لبناء الحضارة، مثل القدرة على ترتيب الأولويات، وفهم منهج التعامل مع الحياة الدنيا، وتحديد العلاقة مع الآخرين، ووضع برنامج عملى لعمارة الأرض، وعلى ذلك فإن إدراك مفهوم الأمة أمر أساسى إذا كان يمثل المنطلق لهذه القضايا وغيرها، وتفعيل ذلك الإدراك أمر أكثر أهمية من الإدراك المشار إليه.

فلابد علينا أن نتكلم بتوسع - وتحديد أيضا - عن مفهوم الأمة، ففى نظر المسلمين الأمة ممتدة عبر الزمان فيما يمكن أن نسميه «الدين الإلهى»، فالأمة تبدأ من آدم، وتشمل كل الرسل والأنبياء فى موكبهم المقدس عبر التاريخ، والأمة بعد النبى - صلى الله عليه وسلم - ممتدة عبر الزمان والمكان، وفى جميع الأحوال ولدى جميع الأشخاص، وهذا أمر غاية فى الأهمية إذا اعتبرناه تأسيساً لما ندعو إليه من معاصرة وإصلاح وتجديد، قال الله تعالى: {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} [المؤمنون:٥٢]، وقال تعالى: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:٩٢].

ويمكن أن نقرر أهم صفات تلك الأمة الواحدة، وهى أن هناك مساواة بين البشر، فأصلهم واحد، ومصيرهم واحد، وهو الموت، والخطاب الإلهى إليهم واحد، قال تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّى رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِى لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِـى وَيُمِيتُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِىِّ الأُمِّىِّ الَّذِى يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف:١٥٨].

فإذا تحدد مفهوم الأمة بهذا المعنى فإن لدينا أمة الدعوة وهى الإنسانية كلها، وأمة الإجابة وهم من صدَّقوا بالنبى - صلى الله عليه وسلم - ودينه ومنهجه فى الحياة، وهم المسلمون الذين اختصوا بخطاب (يا أيها الذين آمنوا). وإذا رجعنا للمعنى الواسع الفسيح نجد مفهوم الأمة يشمل البشرية كلها، ويرى المسلمين مع غير المسلمين أمة دعوة يتوجه لهم جميعا الخطاب بـ(يا أيها الناس) وما أكثره فى القرآن حين يخاطب النفس الإنسانية السوية التى تدرك أن لهذا الكون خالقا يدبر الأمر بحكمة بالغة فى إطار من رحمته السابغة، حتى إنه فى العقائد الإسلامية نرى شفاعة النبى - صلى الله عليه وسلم - يوم القيامة لجميع الخلائق، حتى يصدق عليه قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: ١٠٧] أى السابقين واللاحقين.

فإذا استقر هذا المفهوم الشامل فى الوجدان كان من السهل أن يكون منطلقاً لبناء برنامج حضارى متكامل بمختلف مجالاته السياسية والاقتصادية والاجتماعية ليتواءم مع واقعنا ومشكلاتنا الآنية، ويمكن تطبيق ذلك البرنامج وترتيب أولوياتنا بأجندة تنبثق من واقعنا وحاجتنا دون النظر إلى ما يحاولونه من فرض الهيمنة من الخارج لمصالحهم ومنافعهم.

أما فى حالة فقدان مفهوم الأمة فتصير عملية بناء الحضارة مستحيلة حيث إننا سنظل دائرين فى حلقات مفرغة لا نهائية، وأشبِّه هذه الحالة المأزومة بسيارة قد غرزت فى رمل أو وَحْلٍ، ثم تبين بعد ذلك أن إخراج هذه السيارة من الوحل ليس هو كل شىء، إذ عندما أردنا أن نخرجها وجدناها مكبلة بالكوابح، وعند فك هذه الكوابح وجدناها قد صدئت فى أجزائها، وعندما جلونا الصدأ عنها وجدناها معطلة تحتاج إلى إصلاح فنى، وعندما أصلحناها وجدناها من غير وقود، فلما اجتهدنا وجئنا بالوقود اكتشفنا أنه لا يوجد سائق لها، وعندما أوجدنا السائق بالتى واللُّتَيَّا لم يكن يعرف الطريق فسار بنا فى متاهة، وكلما رأى شيئًا ظنه هو الطريق الصحيح فسار فيه ثم رجع فضاع الوقت، وأظلم الليل فازدادت المتاهة وازداد الإجهاد به وبنا.. فهل من مخرج معقول؟

هذه الأزمات نمارسها سويا الآن فى ظل ضياع مفهوم الأمة الواحدة، فهناك منا من هو فى مرحلة الغرز، ومنا من هو فى مرحلة الكوابح، ومنا من هو فى مرحلة الصدأ، ومنا من هو فى مرحلة العطل، ومنا من هو فى مرحلة فقد السائق أو فقد الطريق أو الإجهاد المزرى، بل يمكن أن يصل الأمر إلى مرحلة لا نجد فيها السائق ولا حتى السيارة من أساسه، وحينئذ فإن الأزمة ستصير كارثة بكل المقاييس.

ولهذا فنحن فى حاجة ماسة لبناء مفهوم الأمة الواحدة، وأن يتم ذلك بمراجعة مناهج التعليم الأساسى والعالى مراجعة قومية لا تقتصر على اتجاه ولا تتبع مناهج الغير، بل تنطلق من رؤيتنا التى لابد أن تصاغ فى صورة واضحة أيضا، فنحن أمة تؤمن بأن الإنسان مخلوق لخالق، وأنه مكلَّف فى هذه الحياة الدنيا وأن هناك يوما آخر نعود فيه إلى ربنا، وأن الإنسان مكرَّم ومحترم وليس مجرد جزء من الكون أو مادة تجرى عليه الأحداث بعبثية، وأن الأمر صادر عن حكيم سبحانه.

ونحـن أمة تؤمـن بالحرية والتعددية، ونؤمن كذلك بأن البحث العلمى لا نهاية له ولا حد له ولا سقف يحده، ولكن نستعمل منتجات العلم فى العمارة لا فى الفساد، ولذلك فنحن ندعو إلى الإبداع لا إلى الهتر، ونحترم الأسلاف ونرى أنهم قاموا بواجب عصرهم، كما يجب علينا أن نقوم بواجب عصرنا، وكذلك نقدِّر الأسرة ونحافظ عليها، ونحترم الجماعة فى جمعيتها.

هذا هو الطريق إذا أردنا أن نبنى الحضارة، فعسى الله أن يَمُنَّ علينا وأن يُمَكِّنَّا فى الأرض كما مكّن الذين من قبلنا: {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِى الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج:٤١].

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق