الأربعاء، 4 يناير 2012

تكامل فى سبيل الله والرسول «صلى الله عليه وسلم» (٣ - ٤) بقلم جمال البنا

وهناك خطابان آخران فى شوال، أحدهما فى ٢٩ والثانى فى آخر شوال، وفى خطاب ٢٩ بعد الإشارات المعهودة إلى المشتركين القدامى والجدد يقول «وسلموا لى على الأستاذ الشيخ حسن البنا حفظكم الله ورعاكم، وقد اطلعت على رسائل الإخوان المسلمين المسماة (نحو النور) وسررت بها كثيراً ولم تغادر صغيرة ولا كبيرة من النصائح الغالية للراعى وللرعية إلا أتت بها بصورة معقولة مقبولة مراعية ظروف وأحوال وحال الناس».
وفى ١٧ المحرم ١٣٥٦هـ كتب إلى الشيخ يخبره أن الأمير نجل سيف الإسلام الحسين بن الملك يحيى، اطلع على المسند فى مكتبه فأعجب به ودفع قيمة اشتراكه فى نسخة وأرسل مع خطابه حوالة بثلاثة جنيهات مصرية وطلب إرسال النسخة سريعاً بعد تجليدها إلى صنعاء، والأمل بعد وصول الأجزاء تكثر الرغبة فى صنعاء فيطلب بكثرة.. الهمة.. الهمة يا أستاذ!!».
وفى ٩ ذى القعدة ١٣٥٧هـ اقترح على الشيخ أن يكتب لفضيلة الشيخ محمد بن عبداللطيف آل الشيخ، حفيد الشيخ الإمام محمد بن عبدالوهاب، ليُرغب جلالة الملك فى الاشتراك فى خمسمائة نسخة «لأن جلالته أحق الناس بإشاعته وطبعه ولقلة طلب الناس لهذا العلم النافع ستضطرون فى المستقبل لعدم إتمام طبعه ولا يسوغ ذلك فى زمن محو آثار السلف الصالح، ومن أحق بالفخار بنشر هذا الكتاب غير جلالة الملك فمن مثله فى الملوك طبع كتب التفسير لـ«ابن كثير» والتاريخ له والمغنى والشرح الكبير فى الفقه، التى عمَّ نفعها الناس وغيرها من ألوف الكتب، التى توزع مجاناً على أهل العلم».

وليس لدينا ما يثبت أن الشيخ البنا ــ رحمه الله ــ كتب إلى العلامة الشيخ محمد بن عبداللطيف آل الشيخ، ولكن من الثابت أن الشيخ محمد بن عبداللطيف كتب إلى الشيخ تقريظاً ممتازاً للكتاب يقول فيه الديباجة «فإنا أشرفنا على ترتيبكم لمسند الإمام أحمد فوجدناه وافياً بالمقصود فحمدنا الله على ما وهبك من هذا المقام الشريف وخدمتك للسُـنة النبوية وإحياء الملة الحنيفية، وهذه منة جسيمة ونعمة عظيمة هيأها الله على يديك لأنك لم تسبق إلى هذا الصنيع، فعلمنا أن فى الزوايا خبايا، وأن لأهل العلم بقايا...إلخ».

والخطاب الأخير فى مكتبة الشيخ من السيد محمد نصيف فى ٨ المحرم سنة ١٣٧٣هـ، ومع أنه يكاد يكون خطاباً خاصاً وأنه جاء فى أعقاب وفاة أكبر أبنائه الأستاذ حسين ــ رحمه الله ـــ فقد تضمن أولاً إشارات إلى المشتركين وبوجه خاص الشيخ يوسف زينل وتحدث بعد ذلك عن رحلته إلى مصر للتداوى وأنه بعد وفاة نجله الفقيد رجع إلى جدة ومعه حفيده محمود، وختم الخطاب «وربنا يحسن الختام ويتوفانا على الإيمان».

رحم الله السيد محمد نصيف وأجزل مثوبته فى الآخرة بما قدم من خدمة للعلم وبما أنجب من رجال يقودون الفكر الإسلامى من أعلى المواقع.

أما الفارس الثالث فهو فضيلة الشيخ عبدالظاهر أبوالسمح، وهو عالم سلفى من أصل مصرى، استوطن مكة وتولى إمامة الحرم المكى وأسس بها دار الحديث، وحظى بمنزلة وثيقة من جلالة الملك عبدالعزيز وعلماء السعودية، والخطاب الأول الذى عثرنا عليه فى مكتبة الشيخ يعود إلى ٩ ربيع الآخر سنة ١٣٥٤هـ، وفيه يقول بعد الديباجة «فقد أخبرنى صديقى الفاضل محمد أفندى مصطفى الفقيه أنكم تفضلتم بإهدائنا نسخة من كتاب الفتح الربانى، فلم يسعنى إزاء ذلك التفضل إلا شكركم والدعاء لكم، وإنى منذ رأيت أول إعلان عن الكتاب وأنا أثنى عليكم وأنوه بعملكم هذا المبرور بين الناس.

هذا وأنكم يا أخى قد رفعتم رأس مصر بهذا العمل الجليل، وأقمتم الدليل على أن فى الكنانة من يخدم السُّـنة ويعمل على إحيائها، فلم يبق لأهل الهند استئثار بهذا الأمر بعد أن ضربتم لهم هذا المثل، أعانكم الله وأجزل ثوابكم وأدام توفيقكم، وجعلنى وإياكم ممن يحبون السُّـنة، ويميتون البدعة، والمشتركون عندنا أكثر من ١٢ مشتركاً، وإن كانوا يتأخرون أحياناً عن الدفع فنقوم عن بعضهم، ولا عجب فإن أكثر محبى السُّـنة إن لم أقل كلهم ليسوا بأهل ثراء وغنى، إنما هم من الفقراء.

وقد ركز الشيخ أبوالسمح جهده لخدمة الكتاب فى حمل جلالة الملك عبدالعزيز على الاشتراك فى أكبر عدد ممكن وبين يدينا عدد من الخطابات تلقى ضوءاً على هذه العملية ونكشف خلالها عن بعض الظروف المالية التى كانت تمر بالمملكة وقتئذ والتى كانت تقضى عليها بأشد الأساليب تقشفاً «ولكن المستقبل سيكون أفضل ــ كما جاء فى أحد الخطابات ــ لأن البترول قد بدأ يظهر، وكذلك الذهب فى أجياد».

وفى ٢٣ ذى الحجة ١٣٥٤هـ كتب إلى الشيخ «ثم إن نجلكم الكريم حسن أفندى قد لقينا وزارنا بدار الحديث، وقد سررت بلقائه جداً وحمدت الله أن جعله من الدعاة إلى الفضيلة، وقد تسلمنا هديتكم بيد الشكر والثناء عن نفسى وعن دار الحديث، جزاكم الله خيراً وبارك فيكم وأخلف عليكم».

«وقد زرنا جلالة الملك ليلة أمس وذكرنا كتاب الفتح، وفى ترجمتكم له ترجمة سرَّ بها وشوقته إلى الاشتراك فى مئات من نسخ الكتاب، وقد أمرنى أن أكلم حضرتكم فى ذلك، فهو كان يريد ٢٠٠ نسخة فقط، فراجعته ليأخذ ٥٠٠، فوافق وأمر أن أكتب لكم فى ذلك.. أفيدونا لعلنا نحصل لكم على شىء من ثمنها يساعدكم على إتمام الطبع، ولكن يبدو أن الإجراءات ومشاغل جلالة الملك أرجأت التنفيذ».

وفى ٢١ صفر سنة ١٣٥٦هـ كتب : «وإنى لخجلان ويعجز القلم عن وصف ذلك الخجل الذى عرانى من أجل تأخير اشتراك جلالة الملك فى الفتح، إذ بعد أن جاء كتابكم الكريم عرضته على جلالة الملك، وبعد أن رد لى الجواب بأنه أمر وزير المالية بما يلزم، وكتب لوزير المالية بعمل الحساب للعدد المطلوب، فلما وجده فوق الألف جنيه استمهلنى أياماً، وما أدرى إلا بالجواب يقول إن جلالة الملك أمر بوقف المسألة الآن حتى يتم الطبع، فعرفت أن الملك قد روجع فى المسألة ليقفها فوقفت، ولكنى عدت فراجعته وقلت لو أن تشتركوا فى مائة نسخة...إلخ».

وفى ١٧ ربيع سنة ١٣٥٦هـ كتب: مولاى.. لم آل جهداً فى الكتابة لجلالة الملك حتى قَبِل الاشتراك فى مائة نسخة كما ترون فى كتابه الرسمى لى، فأرسلوها مجلدة بالقماش تجليداً طريفاً من الجلد ٢ قرش صاغ مثلاً واجعلوا منها نحو ثلاثين نسخة جلد إفرنجى لا يزيد على ٤ قروش صاغ أو ٣ مثلاً.. إلخ، وطلب فى نهاية الخطاب أن يعيد الشيخ البنا خطاب جلالة الملك، الأمر الذى فعله الشيخ بعد أن أشر على خطابه «كان مع هذا خطاب رسمى من جلالة الملك».

ومن الواضح أن طلب الشيخ أبى السمح إلى الشيخ البنا «إعادة خطاب جلالة الملك ليمكنه المحاسبة والاحتجاج به إذا طرأ ما يتطلب ذلك، لأنه كان المتولى للمسألة كلها».

وفى ٤ رمضان سنة ١٣٥٦هـ كتب «تم المعاملة فى الاستلام والتسليم بينى وبين الحكومة كما أريتك فى كتاب الملك»، وفى كتاب آخر منه يقول «أمرنا المالية باستلام الكتب منك وتسليمك الثمن، وكذلك كان وصار لى الحق أن أزيد ما أغرمه من جيبى من المصاريف وما أنفقه على العمال، طبعاً أنا وحظى إن أعطتنيه الحكومة فلله الحمد وإن لم تعطه احتسبته فى خدمة السُّـنة، وقد تكلفنا فى تفريق الصندوق الكبير الذى أرسلتموه إلى ٦ صناديق ليمكن حمله على الجمال...إلخ، وإن خادمى ليذهب كل ليلة فى رمضان إلى المالية بالسند فيعطى مرة ٨ جنيهات ومرة لا يعطونه، وناس يصبرون بالشهور على ما لهم عندنا، ولولا ما للفقير عندهم، وأنها مسألة تتعلق بالملك نفسه ما حصلنا على المبلغ بعد سنة، فالحمد لله على أنى إلى ساعة كتابة هذا لم أوف وأثرتك بالذى حضر، والرجا قبول عذرى فإن التأخير والله لم يكن بيدى، بل رغم أنفى.. وإلى الله المشتكى».

وبعد هذا التاريخ بيومين فحسب (أى فى ٦ رمضان) أرسل إلى الشيخ خطاباً جاء فيه بعد الديباجة «فإلى الآن لم تصل الكتب من جدة، وهذا الذى كنت أعمل له ألف حساب، فإن الحجاج أخذوا يفدون بكثرة، وإذا كثروا وقعت أزمة فى الجمال فتغلو البضائع لذلك وتعطل فى الجمرك إلى أن نجد الجمال لحملها، وقد أرسلت لمحمد أفندى نصيف منذ جاءنى كتاب المرسل من السويس، أى منذ ١٤ يوماً وقد كان صندوقاً ضمن بضاعة لتاجر فى جدة اسمه أحمد باعشن، فذهب الأفندى إلى الجمرك ونقل الصندوق إلى منزله ولكنه لم يجد الجمال لنقله...إلخ».

وكان الشيخ البنا ــ رحمه الله ــ عظيم التقدير لما يقوم به الشيخ عبدالظاهر أبوالسمح من جهد، بحكم صفته كمدير لدار الحديث وإمام للحرم المكى وبحكم اتصالاته بالملك عبدالعزيز، خاصة بعد أن أصبح الكتاب يُدرس فى دار الحديث.

والحقيقة أن الشيخ فى اعترافه بهذا التجاوب وشكره له كان يجرى على أدب الإسلام فى رده التحية بأحسن منها، ومن هنا فقد تكررت كلمات شكره على الصفحات الأخيرة لأجزاء المسند سواء كانت (لعين أعيان جدة) أو تجارها الكرام أو دار الحديث أو غيرها.

وهكذا تنتهى القصة «لَقَدْ كَانَ فِى قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِى الأَلْبَابِ».

لقد أدى الفرسان الثلاثة واجبهم وقاموا بدورهم، وقد رجعوا الآن إلى ربهم وبقى لهم العلم النافع والعمل الطيب والذكرى العطرة، فرحم الله الجميع وألحقنا بهم على الإيمان.. إنه سميع مجيب..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق