الجمعة، 4 مايو 2012

من جذور الفقه (3) سنن نبوية فى علم السياسة جمال قطب



كان الرسول (ص) يبلغ القرآن كما نزل، ويتبعه بالتنفيذ العملى لما جاء به، ومن ذلك «... فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ...» وهذا نهى صريح ألا يزكى المسلم نفسه فيعرض قدراته، وقد أوضح الرسول (ص) أحد تطبيقات هذا النهى عندما طلب منه أحد الناس وظيفة سياسية فرد قائلا «نحن لا نستعمل على عملنا من يطلبه» ولم يول الراغبين فى الإمارة خصوصا إذا كان من أهله الأقربين، ألا يعتبر الرفض النبوى للترشح الذاتى توجيها عاما للأمة بالبحث عن آليات آمنة للترشيح غير تزكية النفس؟ ولا يلتبس عليك فى هذا المقام ما فعله النبى يوسف (ص) حينما زكى نفسه لدى «عزيز مصر»، فالبون شاسع حيث إن ما فعله يوسف هو تزكية لعلم المغترب عند أهل البلاد، كما أن يوسف رفض منصبا رفيعا لا مسئولية سياسية فيه ولا شعبية (منصب المستشار) (وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِى بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِى...) ورغم ذلك تقدم يوسف لوظيفة شديدة المسئولية (وزير تموين)، كما أن يوسف (ص) كان يتصرف «بشريعة إسرائيل» التى نسخت «بشريعة محمد».

 2
كذلك فأخبار الرسول (ص) تبين إصراره على عدم توليه من يطلب الولاية وشدة إصراره على عدم توليه أحد من بنى هاشم بل وضرورة استبعادهم من «أريكة السلطة» دعما لمعانى النزاهة الرفيعة فلا يليق للقائم بأمر عام أن يميز ذوى قرباه، فقد طلب العباس عم الرسول (ص) وظيفة عامة فرد عليه (يا عماه نفس تحييها خير من إمارة لا تحصيها)، وما أكثر الوظائف العامة التى قلدها الرسول (ص) لمن حوله، ومع ذلك لم يكلف هاشميا ولا مطلبيا ولا على بن أبى طالب، اللهم إلا إذا كانت وظيفة مكررة كالمبارزة فى افتتاحية يوم بدر، أو حمل الراية فى أحد «أيام قريظة» أو يقاسمه القضاء مع معاذ (رض) على اليمن، أما الوظائف العليا كإمامة الصلاة الجامعة  وإمارة الحج فلا تعطى لهاشمى ولا لعلى (رض)، إنها النبوة فى موضع الأسوة الحسنة تعلم الناس كيف تكون النزاهة مدخلا لورع النفس وصلاح الأمة، وهكذا نتعلم التفكير الاستراتيجى متمثلا فى:

ــ إعلام البشرية أن النبوة وكذلك الولاية على الناس لا يورثان، فقد نسخ القرآن ما كان قبله من توارثهما.
ــ تعليم المتفقهين أن هناك وظائف وأدوارا لخدمة الأمة غير وظائف الحكم.
ــ تفضيل التناصح على التنافس فضلا عن عدم الاعتداد الزائد بالنفس فى الشان العام لدرجة الأثرة.

3
وقد تحمل أبوبكر (رض) مسئولية ترشيح عمر (رض) فانتخبه الناس، وقد فطن عمر إلى حاجة الأمة لتجربة رشيدة فى إدارة الشئون العامة، فأقدم فى أول ولايته على صنع «حجاب حاجز» يحجز الضلال عن السلطة، ويتيح موردا ثريا يدعم السلطة ويمدها بما يجددها ويضمن عدم عجزها، وقد تمثل هذا الحجاب فى عزمه على الصحابة بعدم مفارقة المدينة إلا للجهاد أو للحج محذرا إياهم أن مفارقتهم للمدينة إهدار للشورى، وتقصير فى واجبهم نحو السلطة وبما تحتاجه من ترشيد وتوجيه، فضلا عن توفير صف ثان وثالث ورابع للوظائف العامة مما ساعد على استقرار الأمة سياسيا أكثر من عشر سنوات.

4
استدرك عمر (رض) أن الأمة التى يرفض دستورها أن يزكى الإنسان نفسه، لابد أن تمتلك وسيلة شرعية لتزكية القادرين للعمل العام، وأفضل الوسائل هو العمل المؤسسى الذى يتجاوز التصور الشخصى كما يتجنب العرقية والعصبية، فاتخذ قراره الأشهر بانتداب ستة من الصحابة يمثلون الكتل السياسية المتعددة فى المدينة وكلفهم بالتشاور حتى يتفقوا على مرشح واحد يقدمونه للناس، وقد تحرى عمر (رض) أمرين مهمين أولهما أن يتأسى بالرسول (ص) فلا يتحمل مسئولية الترشيح للولاية مثلما تحمل أبوبكر بالعهد لعمر من بعده مقررا أن سنة الرسول (ص) أولى وأفضل من سنة أى إنسان، والأمر الثانى تطبيق عملى خاص للسنة وذلك بسقوط حق قرابة الحاكم وأهله فى أن يتقدموا الصفوف مع غيرهم ولو كانوا ذوى حق كعبدالله بن عمر، فلا يليق أن يرشح الإنسان أحد أقاربه، وهنا نبين السنن النبوية  فيما ذكرناه فنقول:

ــ سنة استبعاد بنى هاشم (رض) من التنافس السياسى إبعادا للشبهات حول العقيدة، وهى سنة استراتيجية كبرى.
ــ سنة الورع لمن يتولى أى دور من أدوار العمل العام وضرورة استبعاد أهله وذويه مما يتاح للبعض دون الآخرين.
ــ سُنة مؤسسية الشورى وعدم تداخل القائمين بها  فى شئون التنفيذ.
ــ سُنة عدم تزكية النفس وعدم التقدم الشخصى أو العصبى لحمل مسؤلية العمل العام.
ــ سُنة تحرير الأجيال من استرقاق بعضها لبعض بفرض رؤية جيل على من يليه من الأجيال.
فما قولكم فى تلك السنن النبوية المهجورة؟.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق