الأحد، 8 مايو 2011

من تطبيقات وثيقة المدينة‏:‏ حسن معاملة الجار بقلم د. علي جمعه مفتي الجمهورية

).إن التعايش السلمي الذي يدعو إليه الاسلام يؤدي بدوره الي تبادل المصالح والأفكار والمنافع وتقوية العلاقات مع الآخر, وقد كان الأمر علي هذا الحال منذ فجر الإسلام بين المسلمين وغيرهم, حيث جعل الاسلام علاقة المسلمين بغيرهم قائمة علي أسس إيمانية مبنية علي قيمة السلام, وبعيدة عن صفة العنف والطغيان.وقد طبق الرسول صلي الله عليه وسلم هذا النموذج في التعامل مع غير المسلمين بالحسني, فكان يحسن حوارهم, ويؤدي إليهم حقوقهم, ويدعو الي حسن معاملتهم في الأمور اليومية, في إطار من الرحمة وحفظ كرامة الانسان.ومن صور الإحسان في معاملتهم: عيادة مريضهم, إذ لا بأس بعيادة أهل الذمة وغير المقاتلين من الكفار, لأنه ـ كما قال الإمام الزيلعي ـ نوع بر في جقهم, ومانهينا عن ذلك, وقد صح أن النبي صلي الله عليه وسلم عاد يهوديا مرض بجواره.( نصب الراية 6/177) وهو مارواه البخاري أن غلاما يهوديا كان يخدم النبي صلي الله عليه وسلم, فمرض فأتاه النبي صلي الله عليه وسلم يعوده, فقعد عند رأسه, فقال له: أسلم, فنظر إلي أبيه وهو عنده, فقال له: أطلع أبا القاسم, فأسلم, فخرج النبي صلي الله عليه وسلم وهو يقول: الحمد لله الذي أنقذه بي من النار( البخاري 5/378).ومن حسن معاملة الآخر أيضا: إفشاء السلام بينهم, ففيه من البر في حقهم مايؤلف قلوبهم, فقد مر النبي صلي الله عليه وسلم بمجلس فيه أخلاط من المسلمين والمشركين عبدة الأوثان واليهود, وفيهم عبد الله بن أبي ابن سلول, وفي المجلس عبد الله بن رواحة, فلما غشيت المجلس عجاجة الدابة خمر عبد الله بن أبي أنفه بردائه ثم قال: لا تغبروا علينا. فسلم عليهم النبي صلي الله عليه وسلم:( البخاري4/1663).قال القرطبي: وقد روي عن السلف أنهم كانوا يسلمون علي أهل الكتاب, وفعله ابن مسعود بدهقان صحبه في طريقه, وكان أبو أسامة إذا انصرف الي بيته لا يمر بمسلم ولا نصراني ولا صغير ولا كبير إلا سلم عليه. فقيل له في ذلك, فقال: أمرنا أن نفشي السلام.( تفسير القرطبي 11/103).ومن صور حسن الجوار كذلك: التعامل التجاري مع الآخر, فقد حرص الرسول صلي الله عليه وسلم علي ازدهار الحالة الاقتصادية في دولة المدينة, فلم يمنع التعامل مع غير المسلمين في البيع والشراء وغيرهما من المعاملات التجارية, ومن تلك المعاملات التي قام بها رسول الله صلي الله عليه وسلم بنفسه مع غير المسلمين أنه رهن درعه عند أبي الشحم
اليهودي, مقابل أنه أخذ لأهله منه شعيرا, ومات ودرعه مرهونة عنده
.ولم يمنع الرسول المسلمين من الذهاب الي أسواق أهل الكتاب والمتاجرة معهم, فبدأ التبادل التجاري بينهم, حيث امتلأت أسواق اليهود في المدينة بالمسلمين, ولا يخفي علي عاقل أن المعاملات التجارية اليومية لا تتم إلا في ظل التعايش السلمي الذي حض عليه الإسلام, وآية ذلك أن المرأة المسلمة كانت تذهب بنفسها لتشتري من اليهود في سوقهم دون حرج, مما يدل علي حالة الأمن والأمان السائدة في ربوع المدينة.ومما يؤكد ذلك المنحي: أن المسلمين كانوا يشترون الماء من بئر رجل يهودي من بني غفار يقال له رومة حتي اشتراها سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه ووهبها للمسلمين, وذلك طاعة لقول رسول الله صلي الله عليه وسلم: من يشتري بئر رومة فيكون دلوه فيها كدلاء المسلمين( البخاري 2/829).ومن حسن الجوار مع الآخر أيضا: العمل علي الإصلاح بين المتخاصمين والمتشاجرين دون تفريق علي أساس الدين أو العرق, لتصفو النفوس وتستقر الأمور بين أبناء المجتمع الواحد, روي البخاري أن الرسول صلي الله عليه وسلم قرأ القرآن علي مجلس فيه أخلاط من المسلمين والمشركين عبدة الأوثان واليهود, فقال عبد الله بن أبي ابن سلول: أيها المرء إنه لا أحسن مما تقول, إن كان حقا, فلا تؤذنا به في مجلسنا, ارجع الي رحلك, فمن جاءك فاقصص عليه, فقال عبد الله بن رواحة: بلي يارسول الله, فأغشنا به في مجالسنا, فإنا نحب ذلك, فاستب المسلمون والمشركون واليهود حتي كادوا يتثاورون, فلم يزل النبي صلي الله عليه وسلم يخفضهم حتي سكنوا( البخاري 4/1663).إن الاسلام وهو يشيع هذه الأخلاق الفاضلة ليحافظ علي الوحدة بين طوائف المجتمع بمختلف مذاهبهم ومشاربهم, وقد تبرأ الرسول صلي الله عليه وسلم ممن خرج يريد زرع بذور الفتنة والفرقة بين أفراد المجتمع, فقال: ومن خرج علي أمتي يضرب برها وفاجرها ولا ينحاش من مؤمنها ولا يفي لذي عهد عهده فليس مني ولست منه(مسلم 3/1476).فالدولة الاسلامية قامت علي أساس قوي من حرية العقيدة والمساواة بين المواطنين, دون النظر الي اختلاف الديانات والعرقيات, كما أكدت علي ترسيخ مفاهيم التسامح والوحدة, والدعوة الي نشر المقاصد والقيم المشتركة بين بني الإنسان, ومن ذلك حب الجار والبر به

كان مجتمع المدينة قائما علي تعدد الأديان والأعراق والطوائف, ولم يكن سكان المدينة يوما أبناء دين واحد في ذلك الوقت, وإنما تنوعت أديانهم بين مسلمين ويهود ومشركين
ولكن جمعتهم الدولة الإسلامية في بوتقة المواطنة, فالاسلام والمسلمون لا يعترفون أو يقرون بمسألة تطهير الأرض وتوحيد الدين وإكراه الناس علي الدخول في دينهم أو
الرحيل من أرضهم, وهذه سنة الله في خلقه, وقد أشار القرآن الكريم الي التنوع الديني فقال:( ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا)( الحج:40), ونبه الي تعدد الأعراق والشعوب فقال:( وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا)( الحجرات:13) كذلك أمر بعدم إجبار أحد علي اعتناق الاسلام, فقال:( لا إكراه في الدين)( البقرة:256

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق