الأحد، 29 مايو 2011

نماذج التعايش مع الآخر


د‏.‏ علي جمعة‏

أكد رسول الله صلي الله عليه وسلم أمن واستقرار دولة المدينة منذ اللحظة الأولي في تأسيسها‏,‏ وحرص علي هذا من خلال سياساته الداخلية والخارجية في وقت السلم والحرب‏,‏
 ففي وقت الحرب ومن خلال الغزوات التي قام بها بنفسه أو السرايا التي بعث بها أصحابه, أصر النبي صلي الله عليه وسلم علي تجنيب أهل المدينة ويلات الحروب والابتعاد عن ازهاق الأرواح وتدمير وتخريب الممتلكات, فعمل علي الخروج لملاقاة الأعداء خارج حدود المدينة لتحقيق هذا الهدف, فعلي سبيل المثال في غزة أحد خرج لملاقاة مشركي مكة خارج المدينة, رافضا التحصن داخل المدينة لحين قدوم العدو, أما في غزوة الأحزاب, فحين لم يتمكن من الخروج لملاقاة الأحزاب خارج المدينة عمل علي تحصين المدينة بحفر خندق حولها في بادرة هي الأولي من نوعها في شبه الجزيرة العربية.

وفي وقت السلم حرص علي تأكيد هذا الأمر أيضا في تعاملاته مع الآخر خارج المدينة, ذلك أن الإسلام دين الأمن والأمان والسلام والإخاء, وليس دين حرب أو شحناء أو بغضاء, لم يستخدم السيف للتحكم والتسلط إنما كانت حروبه وسيلة لتأمين دعوته, وقد أمر القرآن الكريم المؤمنين بالامتناع عن القتال إذا لم تكن هناك ضرورة, ففي كتاب الله قوله سبحانه:( وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل علي الله) الأنفال:61.
وفعل النبي صلي الله عليه وسلم في صلح الحديبية تطبيق عملي لهذا المبدأ العظيم, حيث وعد بقبول أي خطة سلم يقدمها أهل مكة, فقال:( والذي نفسي بيده لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها) البخاري193/3.
فقد خرج رسول الله صلي الله علي وسلم وأصحابه قاصدين مكة محرمين يسوقون هديهم إلي البيت الحرام يبتغون العمرة, لا يحملون سلاحا, ولا يرمون حربا, إلا أن مشركي مكة اعترضوا طريقهم, وأصروا علي صد رسول الله وأصحابه, فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم: إنا لم نجئ لقتال أحد, ولكنا جئنا معتمرين, وإن قريشا قد نهكتهم الحرب, وأضرت بهم, فإن شاءوا ماددتهم مدة ويخلوا بيني وبين الناس البخاري193/3)
وبرغم تعنت رسول قريش سهيل بن عمرو في كتابه الصلح, حيث رفض أن يكتب بسم الله الرحمن الرحيم, قائلا: باسمك اللهم وأصر ألا يكتب محمد رسول الله إلا أن رسول الله صلي الله عليه وسلم صبر وتابع العهد علي ما فيه من إجحاف شعر فيه بعض الصحابة بشيء من الذلة والضعف, حتي قال سيدنا عمر بن الخطاب: يارسول الله ألسنا علي الحق وعدونا علي الباطل؟ فلم نعطي الدنية في ديننا إذن؟ فكانت حكمة الرسول صلي الله عليه وسلم التي بددت كل ذلك حين رد قائلا: إني رسول الله ولست أعصيه, وهو ناصري.
وقد نصوا في هذا الصلح: علي وضع الحرب عشر سنين يأمن فيها الناس ويكف بعضهم عن بعض.. وأنه من أحب أن يدخل في عهد قريش وعقدها فعل, وأنه من أتي محمدا منهم بغير إذن وليه رده إليه, وأنه من أتي قريشا من أصحاب محمد لم ترده وأن محمدا يرجع عنا عامه هذا بأصحابه ويدخل علينا في عام قابل في أصحابه فيقيم ثلاثا, لا يدخل علينا بسلاح إلا سلاح المسافر السيوف في القرب( السيرة الحلبية779/2).
لقد علمنا رسول الله صلي الله عليه وسلم في هذا الصلح حسن التفاوض والتفكير المستقبلي في جميع أمورنا, فقد كانت القوي التي تحارب الإسلام حينذاك ثلاثة, اليهود وقريش وغطفان, فلما صالح النبي صلي الله عليه وسلم قريشا في صلح الحديبية فك الحصار الجنوبي عن المدينة, حيث اتفق المشركون في الجنوب واليهود في الشمال في حصن خيبر علي سحق المدينة المنورة بالزحف عليها من كل جهة, فكان صلح الحديبية خطوة لتنحية المشركين وإبطال اتفاقهم مع اليهود, ثم جاء فتح خيبر ليفك الحصار عن شمال المدينة, فتفرغ صلي الله عليه وسلم للدعوة عموما, ودخل الناس في دين الله أفواجا.
كما أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قد تأكد أن قريشا لا تعرف للسلم قيمة وغلب علي أهلها الحقد علي الإسلام ودولته, وصارت مكة بما فيها غير مأمونة الجانب علي دولة الإسلام, فجهز رسول الله صلي الله عليه وسلم لفتح مكة, والذي جاء بعد نقض قريش لعهدها مع رسول الله, لتظهر النظرة الثاقبة لرسول الله في الصبر علي الأعداء, وتحمل ما يبدو ظلما وجورا للوصول إلي الهدف الأسمي من تبليغ دعوة الإسلام للعالمين دون عراقيل, وتحقيق التعايش السلمي مع الآخر داخل المدينة وخارجها.
مما سبق نتعلم كيفية التعامل مع الأحداث وترك التسرع في الحكم علي الأمور, لئلا ننزلق في مهاوي الفتنة, فتؤدي بنا إلي ما لا تحمد عقباه, في حين أنه يمكننا التغلب علي ما يعتري المجتمع من مشكلات وأزمات بدراستها والوقوف علي أسبابها, والصبر علي غصص معالجتها, والنظر إلي مآلاتها وهذا أحري بأن نتغاضي عن صغائر الأمور وما يتبع ذلك من محاولات لإثارة الفتنة واشاعة البلبلة في المجتمعات الآمنة, خاصة في أوقات ضعف الأمة وكثرة المتربصين بها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق