الجمعة، 27 مايو 2011

تأملات في بناء الفكر الإسلامي للشيخ محمود شلتوت

 للشيخ شلتوت دراسة قيمة تحت عنوان " الإسلام والوجود الدولي للمسلمين"، وهي من الموضوعات الحية، التي نحن بحاجة إليها في هذا العصر الذي أصبح فيه الإسلام هدفاً للتحدّيات الشرسة من أعدائه وأتباعه معاً، هؤلاء الأتباع العلمانيون الذين خُيّل لهم أن الإسلام اليوم جدار مائل بلا حراسة، فانتهزوا الفرصة ليهيلوا عليه الطوب والحجارة، تزلّفاً إلى الأنظمة في ديار المسلمين التي يُرهبها أن يستردّ الإسلام اعتباره، وتقرّباً إلى خصوم الإسلام من الغرب  للحصول على المال.

        لقد كان للمسلمين ـ باعتبارهم جماعة ـ أحداث هي عناصر قوية في بناء الوجود الدولي لهم .. وكان شأنهم في تذكرها، شأن كل مجتمع بشري يتحسّس مواضع الضعف في سيره فيتقيها .. وعوامل القوة فينميها .. إن صاحب العقيدة العالمية، والمبادئ الإنسانية العامة، لا يقف بجهوده في سبيل عقيدته أو مبدئه في أماكن محدودة، وإنما يسمو بعقيدته ومبدئه عن التقيد بالجنسيات والأقاليم. والعالم كله ميدان لعمله "فإذا ما نبا به مكان تحوّل إلى غيره، حيث يجد التربة الخصبة للإنبات والإثمار".

        فلكل مجتمع فيما سلخ من حياة: أحداث كان لها في قوته أو ضعفه، في علمه أو جهله، في نظامه أو فوضاه، في استقراره أو اضطرابه، في أمنه أو خوفه، كان لها في كل ذلك أثر بارز، ينعم المجتمع بخيره إن كان خيراً، ويشقى بشره إن كان شراً، وإن هذه الأحداث التي يسجلها التاريخ وأسبابها، وأحداث الشر وعواملها- قد لفت الله في كتابه الكريم أنظار المسلمين إلى هذا الشأن الطبيعي للمجتمعات، وأخذ يقص عليهم كثيراً من أنباء السابقين: صالحين ومفسدين، ويقول:( قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) [آل عمران:137]. ثم لا يقف القرآن عند هذا الحد من توجيه النفوس إلى الذكريات: ذكريات الأحداث التي كان الزمن مسرحها والبناء الإسلامي ملتقاها، وذكريات المعاني التي كانت النفوس البشرية صحائفها .. بل عرض في كثير من آياته إلى تذكير المسلمين ـ وهم في المرحلة الثانية للدعوة (بعد الهجرة) بأحداث المرحلة الأولى (المكية) .

        قال:( وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [لأنفال:26] والإسلام ـ كما هو معروف ـ شريعة وبناء، الشريعة نزلت على محمد ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ ليؤسس بواسطتها البناء الإنساني العالمي. الذي يساهم في نهضة البشرية قاطبة، دون ما نظر إلى جنس أو لون أو دين. ومحمد ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ هو المؤسس الأول.

        إذن .. فقد كان مولده، هو مولد مؤسس دخل التاريخ من أوسع أبوابه. وأصبح فيما بعد حدثاً تاريخياً، شغل ـ ولا يزال يشغل الأذهان إلى اليوم، وسيظل يشغلها إلى أن تقوم الساعة؛ إن عظمة محمد ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ لم تكن من جنس العظمات البشرية المألوفة، فهي ليست من عظمة الحكام الطغاة الجبارين الذين يستعذبون أنين الإنسانية .. إنها عظمة رحمة وعطف، عظمة هداية وإرشاد، عظمة إصلاح وتعمير، عظمة سلم وأمان، عظمة تهيئ للحياة الفاضلة عدتها، وتعبّد سبلها، عظمة تساير الدهر وتستقر في صفحة الخلود، ويستمد العالم منها غذاء حياته الروحية والاجتماعية.
وتعد الهجرة النبوية هي نقطة التحوّل في ميلاد دولة الإسلام، والهجرة من الأحداث الفذة التي كانت تمهيداً لتثبيت البناء الإسلامي، وميلاد دولة داخل إطار من القوة.

        إلا أن المؤرخين قد عنوا كثيراً ـ وهم يتكلمون عن هذا الحادث الفذ بذكر حوادث الإيذاء التي كانت تصيب الرسول وأصحابه، ومن هنا ألبست أرباب الهوى الخاص ـ وهم يكتبون سيرة النبي العربي .. ثوب الفرار وعدم الصبر والاحتمال في القيام برسالته، ولم يتورعوا ـ إمعاناً فيما يشتهون ـ أن يطلقوا عليه :"النبي الفار" وقد ظنوا أن هذا الثوب المهلهل الذي خلفوه على هذا الحادث العظيم، يستطيع أن يستر الحقيقة التي يحملها بين جنبيه"، والتي لم تلبث بعد الوصول إلى المدينة أن سطع نورها، وانتشر أريجها، وبدأت الغشاوة التي وضعها الجهل على العقل البشري حيناً من الدهر، والواقع أن هذه الهجرة (البدنية) لم تكن إلا أثراً من آثار هجرة القلوب عما كان عليه القوم من عقائد فاسدة، وشرائع باطلة، وعادات وتقاليد كان لها في هدم الإنسانية ما ليس للمعادلة القوية في تقويض البناء الشامخ العتيد.

        وهكذا مع الهجرة، وكان مبدأ الوجود الدولي للمسلمين، الذين لم يكونوا قبلها إلا أفراداً مضطهدين معذبين مبعثرين، وصار لهم بها وحدة. لها شعارها الخاص، ونظامها الخاص، وهدفها الخاص، وقيادتها الخاصة.

        وأخيراً: فمما يبعث على الأسى المرير: أن المسلمين في الآونة الأخيرة، لم يعوا مثل هذا الفكر الإسلامي البنّاء، فقد أهملوا البناء الذي شيده خاتم الأنبياء والمرسلين ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ شغلتهم الدنيا عنه، وهو حصنهم وملاذهم، تفرّقوا سدى، وهانت أمتهم التي أرادها الله خير أمة أخرجت للناس، أصبحت مطمعاً حتى لأخس خلق الله من سلالة القردة والخنازير، لم يعد لها وزن يذكر في موازين القوى العالمية على الرغم من أنها تمثل (خُمس) سكان المعمورة. هم اليوم غثاء كغثاء السيل، نزع الله المهابة منهم من قلوب أعدائهم، وقذف في قلوبهم الوهن، حب الدنيا وكراهية الموت ـ كما تنبّأ به لك الرسول الصادق ـ صلوات الله عليه وسلام‍‍ه.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق