الخميس، 2 يونيو 2011

محاور بناء المجتمع بقلم على جمعة

قال النبى صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه ابن ماجة فى سننه: «تركتكم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك»، فتركنا صلى الله عليه وسلم ومعنا كتاب الله وسنته الشريفة، وهما كنزان من الكنوز، فقال فيما أخرجه الإمام أحمد فى مسنده: «تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدى أبدا: كتاب الله وسنتى»، وقد حفظ الله تعالى الكتاب من التحريف، وأقام المسلمين فى حفظه، ووفقهم إلى ذلك من غير حولٍ منهم ولا قوة، وعلَّمهم العلوم التى توثق النص الشريف، فنُقل إلينا القرآن الكريم غضاً طرياً على مستوى الأداء الصوتى لأى حرف من حروفه، وكذلك السنة نُقلت إلينا خالية من التحريف بعدما قام العلماء المسلمون بوضع ما يصل إلى عشرين علمًا للحفاظ عليها كعلم الرجال والجرح والتعديل ومصطلح الحديث والدراية والرواية والشرح، وغير ذلك من العلوم التى حافظت على سنة نبينا صلى الله عليه وسلم.

والسؤال الآن: كيف نحول ما تركه لنا صلى الله عليه وسلم من كتاب وسنة إلى برامج عمل يومية وإلى سلوك يعيشه الفرد منا فى حياته وفيمن حوله حتى تتطور مجتمعاتنا وتعود مرة أخرى إلى الأسوة الحسنة المتمثلة فى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وصحابته الكرام، وهم خير سلف لنا؟ والإجابة عن هذا السؤال هى أنه صلى الله عليه وسلم قد ترك لنا وصايا ونصائح جامعة لتكوين هذه البرامج وتطبيقها فى واقعنا المعيشى.
ومن هذه الوصايا الجامعة، اخترت حديثًا رواه الإمام مسلم عن أبى هريرة رضى الله تعالى عنه وأرضاه، يقول فيه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا نَفَّسَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ يَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِى الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ فِى الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ فِى عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِى عَوْنِ أَخِيهِ وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ وَمَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِى بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ إِلاَّ نَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ وَحَفَّتْهُمُ الْمَلاَئِكَةُ وَذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ وَمَنْ بَطَّأَ بِهِ عَمَلُهُ لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ».
ويشمل هذا الحديث عدة وصايا جامعة تُكَوِّن منهجاً رصيناً ومحدداً لبناء الحضارة وتقوية أركان المجتمع، فيدعو النبى صلى الله عليه وسلم من خلاله إلى العلم والتعلم، وإلى التكافل الاجتماعى، وإلى الانتماء الوطنى، وإلى بناء الإنسان بتنميةٍ شاملة إذا أردنا أن نُعبِّر بألفاظ أدبيات العصر، ويتضمن الحديث محاور أخرى كثيرة ولكن يكفينا منها هذه المحاور الأربعة لنتدبرها ونتأملها ونحولها لواقع نبنى به حضارتنا ومجتمعنا:
١- أَمَرنا صلى الله عليه وسلم بالعلم والتعلم، واستعمل الكلمة المنَكَّرة «علماً»، والنكرة تفيد العموم لتشمل أى علم بمختلف مجالاته وغاياته، سواء لإدراك الحقيقة الكونية أو العقلية أو النقلية أو الشرعية، فالعلم هو القدر اليقينى من المعرفة، وهو إدراكٌ جازمٌ مطابقٌ للواقع ناشئٌ عن دليل، والعلم له طريقه، وإذا كان صحيحًا يُوصل إلى الله رب العالمين، قال تعالى: «إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ» [فاطر:٢٨]. ونحن نحتاج إلى العلم فى عصرنا هذا أشد الاحتياج، وهو فى قائمة أولوياتنا الملحة، فليس هناك على خريطة وطننا فى الأولويات ما هو قبل العلم، فبالعلم نستطيع أن نتحد، وبالعلم نستطيع أن نقوى ونصبح مجتمعًا قوياً، ويقول صلى الله عليه وسلم: «المؤمن القوى خيرٌ وأحب عند الله من المؤمن الضعيف وفى كل خير»، وهذا التصوير لكل من ذهب يشترى كتابًا، أو كل من أراد أن يحضر مؤتمرًا، أو من كتب بحثًا يسهر فيه الليالى، أو يُجمِّع مادةً علمية من أجل أن يُدرِّس، أو أن يكتب، أو أن يُلقى محاضرة أنه يسير فى طريق الجنة تشبيه إعجازى، يحث على العلم ويجعل منه هدفاً لكل مسلم فيربط الدنيا بالآخرة، ويرفع الحجاب الحاجز بين هذه الحياة، وبين مراد الله من خلقه.
ـ وكرر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، حثه على العلم فى نهاية الحديث مؤكداً محور حضارة الإسلام وهو القرآن الكريم، فعليه الخدمة، ومنه المنطلق، وإليه العودة، وبه التحاكم، فهو المعيار الذى جعله الله سبحانه وتعالى محفوظًا معجزًا ناطقًا باسم الرسالة الإسلامية إلى يوم الدين، ولذلك فلابد لكل حضارةٍ ولكل مجتمعٍ قوى أن يجعل لنفسه محورا يخدمه، والقرآن محور حضارة المسلمين فخدموه بالكتابة، وأنشأوا وأبدعوا الخط العربى، وخدموه بالتفسير، وخدموه بالفقه والإدراك، وخدموه بعلوم الحياة، لأن الله سبحانه وتعالى أمرنا بالسعى فى الأرض، وبالنظر فيها، وبمعرفة الحقيقة والبرهان، نجح المسلمون فى خدمة هذا الكتاب وتحويله من نصه المسطور إلى واقع معيش وبرنامجٍ يومى.
٢- والمحور الثانى هو التكافل الاجتماعى، وجعل صلى الله عليه وسلم أساسه مساعدة المعسر لتجاوز عسرته، وهو أمر يعود فى النهاية بالخير على المجتمع ككل وليس مقتصرا على المعسر بتجاوز مشكلته أو المساعد بتحصيل الثواب، وإنما هى طريقة اقتصادية رشيدة يؤمن بها الاقتصاديون المعاصرون، ويسمونها التعويم: أى أننا نُعوِّم هذا الذى كاد أن يغرق، وبتعويمه يعود النفع والمصلحة على الفرد وعلى المجتمع.
٣- والمحور الثالث هو الانتماء الوطنى ويعبر عنه صلى الله عليه وسلم بأن يكون العبد فى عون أخيه، ولم يقل هنا المسلم، وإنما وسع الدائرة، وجعل الانتماء الوطنى أساس التعامل، فأقر التعددية الدينية التى تندرج تحت قوله تعالى: «فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُر» [الكهف:٢٥]، وقوله: «لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِىَ دِينِ» [الكافرون:٦]، وقوله: «لَا إِكْرَاهَ فِى الدِّينِ» [البقرة:٢٥٦]، وقوله: «مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا البَلَاغُ» [المائدة:٩٩]، وقوله: «لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ» [الغاشية:٢٢]، وقوله: «فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا» [النساء:٨٠] ، فجاء خطابه العام صلى الله عليه وسلم تعبيراً عن الاندماج الوطنى رغم اختلاف الدين والتكاتف بين الناس رغم اختلاف العقيدة، فى تعايش لم نر مثله طريقًا فى الوصول إلى المجتمع القوى.
٤- والمحور الرابع والأخير تناول بناء الإنسان فيقول صلى الله عليه وسلم: «وَمَنْ بَطَّأَ بِهِ عَمَلُهُ لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ»، فالأمر ليس بالأنساب ولا الوجاهة ولا الأحساب، إنما بالعمل، فقيمة الإنسان فى الوجود وفى المجتمع بعمله فى عبادة الله: «وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ» [الذاريات:٥٦]، وفى عمارة الأرض: «إِنِّى جَاعِلٌ فِى الأَرْضِ خَلِيفَةً» [البقرة:٣٠]، «هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا» [هود:٦١]، يعنى طلب منكم عمارها، وفى تزكية النفس: «قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا» [الشمس:٩-١٠].
محاور أربعة لو أننا تأملناها، وفهمناها، ثم بعد ذلك حولناها إلى برامج عمل نعيش فيها ونُفعِّلها فى حياتنا، لأصبح هذا المجتمع من خِيرة المجتمعات فى أمور الدنيا وفى أمور الآخرة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق