الجمعة، 10 يونيو 2011

حق التظاهر ... بين الفكر الدستوري والقانوني والشريعة

أدرجت قواعد القانون الطبيعي حق التعبير بكل مظاهره، بما فيها التظاهر والاعتصام كإحدى ثوابت الحقوق، اللصيقة بالإنسان، المعبرة عن الفلسفة التنويرية التي تتضمن وتشمل مفاهيم القانون الطبيعي، وحق تقرير المصير، ومن أعلام هذا التوجه نُشير إلى الفيلسوف البريطاني "جون لوك"، الذي أكد في مؤلفه الثاني عن الحكومة "فكرة الحكومة بالتوافق أو الاتفاق"، وأن الكائن البشري يتمتع بحقوق طبيعية منها حق التعبير؛ وبالتالي حق التظاهر والاعتصام، وهو حق لصيق بالإنسان تمامًا، كما حق الزواج والتنقل والاجتماع، وغيرها من الحقوق التي تزاوج وتلامس شخص الفرد وحريته في التحرك والتعبير، بحيث يقتضي أن لا تُقيَّد إلا بالقدر الذي يسمح بتنظيمها؛ لضمان وتأمين ممارستها من قِبل الغير بالذات.

 ومن خلال النظريات المتلاحقة التي تبنَّاها كلٌّ من الفقه "الأنكلو ساكسوني" و"اللاتيني" وحتى "الجرماني"، التي تكرست نتيجة الحروب والانتفاضات الشعبية، ولاسيما حروب الاستقلال، والثورة على الظلم والحكم المستبد والمستأثر بالسلطة، تم الوصول إلى اكتساب هذا الحق ـ حق التظاهر ـ ففي بريطانيا؛ تم وضع الميثاق الكبير عام 1215م، الذي قيد من صلاحيات الملكية المستبدة، تبعه إعلان الاستقلال، لجمهورية الداتش "هولندا ـ ألمانيا" لعام 1581م، ومن بعدهما إعلان الاستقلال للولايات المتحدة الثلاثة عشرة، الذي جرى التصديق عليه في "الكونجرس" بتاريخ الرابع من شهر تموز 1776م، الذي لحظ التمثيل الصحيح في السلطة التشريعية كحق ثابت، ومقاومة الحاكم الظالم المستبد، غير القادر وغير المؤهل لحكم شعب حر.


ونتيجة لإلغاء الإقطاع في فرنسا خلال الأحداث التي ترافقت مع انطلاق الثورة الفرنسية عام 1789م؛ فُرِض مبدأ التساوي بين المواطنين، وأطلق كلٌّ من "ميرابو" و"سياياس" إعلان حقوق الإنسان والمواطن، الذي عدد الحقوق الطبيعية غير القابلة للتنازل عنها أو المساومة بشأنها، وأهمها حرية الفرد، الملكية الفردية، والأمن ومقاومة الظلم أو القهر أو الاستبداد.


والثابت أن سائر هذه الحقوق التي ترتقي إلى القانون الطبيعي، جرى إدراجها في متن الدساتير، وجرى التذكير بها على أنها حقوق أساسية وطبيعية، تتناول الطبيعة الإنسانية، ولصيقة بشخص الفرد، لا يمكن التنازل عنها أو المساومة بشأنها أو تجزئتها؛ وأهمها:


1.    حق الثورة والانتفاضة على الحاكم الظالم، المستأثر بالسلطة والحكم.


2.    حق الانتفاضة بهدف تغيير النظام، أو الحكم والحاكم غير العادل.


3.    حق المواطن في التعبير والاجتماع، بكل الوسائل المتاحة؛ تحقيقًا للأهداف والغايات الملحوظة آنفًا.


فالمؤكد إذًا أن الحريات العامة، بما فيها حرية أو حق التعبير بالتظاهر والاعتصام، وحرية الاجتماع أو التجمع، وحرية التنقل، تدخل في نطاق القانون الطبيعي الذي يحتضنها ويكرسها، وبالتالي لا يمكن اختزالها أو إسقاطها، حتى لو جرى تجاهلها كليًّا، أو بصورة جزئية، أو تقييدها بشكل أو بآخر في النصوص الدستورية، لدى بعض الأنظمة الاستبدادية الشمولية، وهي تبقى قائمة ونافذة، ولاسيما في التطبيق العملي.


وأمست من الأعراف المستقرة والثوابت الدستورية، حسبما تأكد من خلال الانتفاضات المتلاحقة، التي جرت في دول المنظومة الاشتراكية في أوروبا، خلال المرحلة ما بين الخمسينات والسبعينات في القرن الماضي، وما شهدته بعض الجمهوريات السابقة المكونة للاتحاد السوفيتي، وفي بعض المستعمرات المنتشرة في المعمورة.

التظاهر في الفكر الدستوري:


وعلى صعيد القانون الدستوري، طغت وتكرست أحكام القانون الطبيعي، بحكم الانتفاضات والثورات المتلاحقة، ولاسيما في دول الغرب، وأضحت جزءًا أساسيًّا من مقدمات وقواعد الدساتير؛ في كلٍّ من فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية، فضلًا عن معظم الدول الأوروبية، وتشكل رأس الهرم فيها قواعد ومبادئ الحريات العامة، ومنها وأهمها حق التعبير والاجتماع والانتفاضة بوجه الظلم والاستئثار والطغيان، وبهدف تغيير النظام السياسي أو الانقضاض على الحكومة القائمة، بقصد استبدالها أو إرغامها على تعديل أو تغيير نهجها في مواضيع محددة، ذات تأثير مباشر إما على حياة ومعيشة المواطن وإما على كرامته وحريته ومعتقده.


 وقرأنا في إعلان الاستقلال للولايات المتحدة الثلاث عشر الأمريكي، وفي إعلان حقوق الإنسان والمواطن في فرنسا، وفي الإعلانات التي تبنتها دول أخرى، كفيتنام وروسيا، ولمسناها في مناسبات مختلفة، ولاسيما في الخطاب الشهير الذي ألقاه "مارتن لوثر كينج" في الحشود الغفيرة، مستهلًا كلماته الشهيرة بعبارته الشهيرة أيضًا: "لديَّ حلم"، الذي هزَّ مشاعر المظلومين والمقهورين في العالم.


الحريات العامة إذًا جرى تكريسها دستوريًّا نتيجة مخاض، مرت به الأمم الغربية، تحديدًا في عبورها إلى رحاب الحرية والانعتاق، وعصارة نضال شاق وطويل، في سعي شعوبها إلى تحقيق ذاتها واستقلال بلادها، وهي دفعث ثمنًا باهظًا لبلوغها، دمًا وحروبًا ونارًا ومعاندة ومكابدة وصمودًا.


القانون المصري والتعسف ضد التظاهر:
 أما في عالمنا العربي، فلا يوجد احترام لحق التظاهر في الفكر القانوني؛ ففي مصر على سبيل المثال صدر القانون رقم 14 لسنة 1923م، في فترة لم يكن بها مجالس تشريعية، ويتضمن هذا القانون ثلاث قواعد أساسية، تشكل قيدًا صارخًا على حرية الأفراد في الاجتماع؛ أولها: ضرورة إخطار الجهات الأمنية قبل عقد الاجتماع بثلاثة أيام على الأقل، وتنقص هذه المدة إلى أربع وعشرين ساعة إذا كان الاجتماع انتخابيًّا.



كما نص القانون على حق الجهات الأمنية في منع الاجتماع قبل عقده، حيث يجوز للمحافظ وللجهة الأمنية منع الاجتماع قبل عقده، وتسري أحكام هذه المادة على كافة الاجتماعات والمواكب والمظاهرات التي تقام أو تسير في الطرق أو الميادين العامة، والتي يكون الغرض منها سياسيًّا، كما أعطى القانون حقًّا لرجال الأمن في حضور وحل الاجتماع أثناء عقده، وهو ما يخول لوزارة الداخلية سلطة واسعة لا حدَّ لها؛ لأنها تجعل من رجل الأمن مدعيًا عموميًّا، وقاضيًا ومنفذًا، ويُجرى ذلك في دقائق معدودة، ويكون حكمه في حل الاجتماع نهائيًّا، كما قصر هذا القانون الاجتماعات الانتخابية على فترة قصيرة، تمتد من يوم دعوة الناخبين إلى يوم الانتخاب.


كما أعطى للأمن سلطة تقديرية لما يعتبر من الاجتماعات العامة، سواء أكان الاجتماع في مكان أو محل عام أو خاص، وعند عرض القانون على مجلس النواب في 20/ديسمبر/1927م، قدم اقتراحًا بتعديله لتقليص سلطات رجال الأمن، وإعطاء مزيد من الضمانات للأفراد في مواجهة تعسف رجال السلطة التنفيذية، في تضييق حرية الاجتماع والتظاهر السلمي، إلا أن هذا المشروع كان مصيره الفشل، وتم وأده بسبب حل البرلمان وتعطيل الدستور.

الشريعة والتظاهر:

وثمة اتجاهان لعلماء الشريعة في قضية التظاهر:

الاتجاه الأول: يرى أن هذه المظاهرات من أمور العادات، وليست من أمور العبادات، والأصل في العادات الحل والجواز، ما لم يرد دليل على الحرمة، وأصحاب هذا الرأي يرون أن المظاهرات وسيلة تأخذ أحكام الوسائل، والأصل في الوسائل الإباحة، فإن كان المقصود من هذا التظاهر إظهار الحق، ورفض الظلم، وكشف الجرائم، وشحذ همم الناس وألسنتهم وأقلامهم وأيديهم بما يملكون فعله؛ فهي ممدوحة مندوبة؛ بل قد تصل إلى الوجوب أحيانًا، وبناءً على ذلك؛ فلا بأس أن يتجمع المسلمون ويخرجوا في مظاهرات لاستنكار أمر معين، ويعلنوا رفضهم له، ويطالبوا بالتدخل لمنعه، إذا كانت هذه الطريقة مجدية ونافعة، والعادة مشروعة، ما لم تصادم الشرع.

الاتجاه الثاني: يرى أن هذه المظاهرات ـ مع العلم بأن الأصل فيها الإباحة ـ غير أنا لا نعدم أدلة كثيرة في تراثنا الإسلامي على مشروعية التظاهر، فالتظاهر مع الحق وضد الباطل سنَّة مشروعة جارية، سنَّها الله في إظهار الإنكار على الفساد في قوله: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور: 2]، وسنَّها في الابتهاج بالأعياد، ووداع الرسول صلى الله عليه وسلم للغزاة حين خروجهم والاحتفال بهم حال عودتهم، وفي إظهار القوة، كما فعل مع أبي سفيان فألزمه رؤية قوة المسلمين، وقطع الطريق عليه أن يفكر في إمكان مواجهة القوة الضاربة للإسلام، ومن قبل طلب الرسول صلى الله عليه وسلم من الطائفين أن يهرولوا في الطواف؛ إظهارًا لقوة وصحة أجسامهم.

وقد عاب الله على الذين تعلَّلُوا بأنهم مستضعفون، لا يقوون على رد الظلم، فلم يقبل علَلَهم، بل توعدهم بالعذاب في الآخرة: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَـئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيرًا} [النساء: 97]، وكل الأدلة التي تتحدث عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وفقهه وآدابه تصلح للاحتجاج بها هنا في موضوع التظاهر.
ولا مانع أن تخرج هذه المظاهرات من المساجد، أو من أي مكان آخر، ما دامت مكانة المسجد محفوظة، والمتظاهرون ملتزمون بآداب المسجد خاصة، والأخلاق والسلوك الإسلامي بصفة عامة، غير أن هذا الحق مقيَّد بألَّا يترتب عليه ضياع حق الغير، فلا يجوز أن تُحدِث المظاهرات ضررًا بالغير، أو إتلافًا لماله أو ممتلكاته، بل الواجب أن تخلو من أي نوع من أنواع الإيذاء المادي أو المعنوي للآخرين، فلا سب ولا قذف، ولا إ
سوسن مسعود

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق