الثلاثاء، 1 مارس 2011

الاستبداد ومظاهر التخلف في بنية العقل العربي/كتب عبد الوهاب عيسي



في أوائل الخمسينات ازداد التأليف بغزارة حول التخلف، وكان ذلك نتيجة لبروز ظاهرة الدول المستقلة حديثا والتي حملت مصطلح دول العالم الثالث، وكان الباعث على التأليف في ذلك هو البحث في المشكلات والقضايا التي تتحدى النهوض الاجتماعي كما يقول الدكتور مصطفى حجازي في كتابه التخلف الاجتماعي، وقد اتخذت هذه الدراسات وجهات متعددة، ولكنها تركزت بشكل أساسي حول الاقتصاد والصناعة، فنشأ عن ذلك علم اقتصاد التخلف، الذي يبدو أنه أسقط من حساباته صاحب القضية وهو الانسان المتخلف، فلم يعطه من الاهتمام مثلما أعطى للبنى الاقتصادية والسياسية. فصارت خطط التنمية الإقتصادية توضع بين يدي حكام متخلفين يطبقونها على شعوب متخلفة بعقلية غاية في التخلف، فكانت النتيجة الحتمية أن فشلت جل نظريات المعالجة على أسس اقتصادية، فاتجهت أنظار الباحثين - وليس الحكام - إلى العلوم الإنسانية بحثاً عن حل لهذا اللغز فنشطت هذه العلوم وتعددت المؤلفات عن أسباب ومظاهر التخلف بتعدد أنواع العلوم الإنسانية ومناهج البحث المختلفة، لكن مع هذه الكثرة من الأبحاث والمقالات لا نكاد نجد فيها ما يخصنا نحن العرب بتحليل إلا القليل، فالمكتبة العربية في شوق لمثل هذه الأبحاث التي تتغلغل في أعماق الإنسان العربي وتصف له أعراض جرثومة التخلف في فكره وعقله، أحد هذه المباحث القليلة هو بحث اجتماعي بعنوان أزمة اللغة ومشكلة التخلف في بنية العقل العربي للدكتور محمد يونس أستاذ اللسانيات بجامعة الشارقة، ورغم أن البحث لغوي - كما يبدو من العنوان - إلا أن الباحث رأى أن أصل المشكلة ليس لغوياً، وإنما عقليا ، فصدر بحثه بقوله:" تقوم هذه الدراسة على افتراض أن أزمة اللغة العربية هي جزء من مشكلة أعم، هي مشكلة التخلف، وما لم تبحث مظاهر التخلف في بنية العقل العربي، وأسبابه؛ فستبقى أزمة العربية قائمة دون حل جذري
".
فمناقشة التخلف ومظاهره في العقلية العربية هو الحل الجذري لمشاكلنا، لذا حاول الباحث في وضوح وعمق شديدين وضع يدنا على المرض، فكان تحديده لمظاهر التخلف في بنية العقل العربي –والغريب أنها تتماثل وتتعاظم مع صفات المستبدين- في خمسة عناصر رئيسة هي:

1-
تمحور التفكير حول الذات (أو تضخم الأنا )، ويتفرع عنها الانتهازية والاستغلال، والاستبداد. ٢- عاطفية التفكير، ويتفرع عنها الآنية والارتجال، واتباع الهوى وغياب العدل، والتفكير الشاعري. ٣- الجزمية الفكرية، ويتفرع عنها نغمة الحسم في تقويم الأمور، وعدم تقبل النقد. ٤- التواكل الفكري، ويتفرع عنه : الاستسلام للتفكير التآمري، وإيقاع اللوم على الآخرين، والاستسلام للواقع وعدم التضحية، وعدم المبالاة بأهمية الأمور، والترعة التقليدية وغياب التفكير الإبداعي (الألمعية)، والتفكير الهامشي. ٥- سطحية التفكير، ويتفرع عنها قصر النظر، وغياب العمق، وصفرية الانطلاقة، وإهمال الكيف والاهتمام بالكم، والتفكير التشخيصي، والتفكير الحشوي.١- تمحور التفكير حول الذات وينتج عنه: الانتهازية، والاستغلال، والاستبداد، حيث باتت أفراد اﻟﻤﺠتمعات العربية تنظر للحياة على أنها فرص ينبغي استغلالها، وأن العلاقات مع الآخرين بات يحكمها صراع، يحاول كل طرف حسمه لصالحه. فمن يحصل على منصب سياسي أو اقتصادي أو موقع اجتماعي أو إعلامي أو تربوي فلا بد له من أن يستغله لصالحه إلى أقصى حد ممكن. أما الاستبداد فيرى يونس أنه على رأس قائمة القيم المضادة للحياة والتقدم. فالمستبد يرى تناقضا بين مصالحه الشخصية المحكومة بأنانية مفرطة، والمصالح العامة التي لا تشبع ﻧﻬمه؛ ولذا يحرص على أن تكون كل أمور اﻟﻤﺠتمع متمحورة حوله".٢- عاطفية التفكير أما المظهر الثاني للتخلف في العقلية العربية في تقديره فهو عاطفية التفكير وهي: ظاهرة ترتبط بعدم النضج، وغلبة الخصائص الطفولية في الإنسان، ويتفرع عنها: الآنية والإرتجال، ومن أشكالها في واقعنا، أن أغلب أفعالنا تكون عبارة عن ردود أفعال وليس مبادرات، وهو ما يؤدي إلى الفوضى، وغياب التخطيط الواعي. وتستحكم عادة الآنية والارتجال في الإنسان المتخلف، نتيجة تعوده على الاعتماد على الغير، فتجعله عاجزا عن التفكير والاختيار، أو ضبط انفعالاته، ودوام لومه للآخرين فيما يواجه من مشاكل، وقد فسر ماجد الكيلاني في كتابه التربية والتجديد ذلك بأنه "نتيجة للتنشئة "الأسرية القسرية، والتربية التلقينية الخاطئة، ونظم الإدارة السلطوية، والحكم الظالمة". ومن مظاهر التفكير العاطفي اتباع الهوى وعدم العدل وأبرز ملامحه اتباع الهوى التعصب للقبيلة وللبلد وللأقارب وللأحباب.٣- الجزمية الفكرية عرفها يونس بأنها " توهم الإنسان علمه بالأمور أكثرمن غيره، وغناه عن الاستشارة، وتيقنه من صحة رأيه وعدم قبوله المراجعة أو النقد، وذلك لأنه يكون متعلقا برأيه عاطفيا ويعتبره جزء منه، ولذا فإن أي نقد يوجه إلى رأيه يفسّر على أنه اعتداء على شخصيته" ومن مظاهر هذه الجزمية محاولة الحسم في تقويم الأمور فيكون"التعبير عن وجهات النظر بأسلوب جازم لا مجال فيه لشك أو خطأ، وعدم التسامح، ورفض الآخر وإطلاق التعميمات الباطلة بلا حجج واضحة إلا تجارب محدودة لا تكفي للحكم على شيء " و ثالث مظاهر الجزمية الفكرية عدم تقبل النقد ويكتفي يونس بنقل قول أحد المستشرقين:" إن موافقتك العربي بنسبة ٩٨ % يعني أنك عدوه" ٤- التواكل الفكري وهو نوع من الكسل العقلي مقترنا بمنهج تسويفي يرمي إلى إراحة النفس من التعامل مع مشكلة ما. وينتج عنه الاستسلام للتفكير التآمري فما أسهل على العربي أن يحل جميع مشاكل العالم، وهو يحتسي فنجانا من قهوة، فبلحظة من الإلهام يستطيع كثير من الناس أن يتجاوز النظر إلى ظواهر الأمور ويتعمق في نيات الناس، وفي غياهب الغيبيات ليدرك بثقة كاملة أن أصل أي مسألة قيد النقاش لا يعدو أن يكون محض مؤامرة يقوم ﺑﻬا أعداء الأمة أو الجن أو قوة أخرى. وشبه يونس المصاب ﺑﻬذا النوع من التفكير بطبيب يعزو جميع الأعراض التي يشكو منها مرضاه إلى قوى شريرة تتحكم في أجسادهم، وهو بذلك يريح نفسه من عناء استخدام السماعة، وقياس الحرارة والضغط والسكر، والتفكير في الاحتمالات الطبية الممكنة للمرض. ويرى أن التفكير التآمري يعد دليلا على الروح الاﻧﻬزامية، وعدم الثقة في النفس، وضعف الإرادة، وفتور العزم. ومن نتائج التواكل الفكري اللامبالاة بأهمية الأمور ولهذه الصفة مظاهر مختلفة كما يقول يونس "منها عدم إتقان العمل ، وعدم العناية بالتفاصيل، وغياب الدافع الذاتي للقيام بالعمل." ومن أخطر نتائج التواكل الفكري التقليد وعدم الإبداع(الإمعية) وهي"المحافظة على القديم ﻟﻤﺠرد قدمه والعزوف عن الجديد ﻟﻤﺠرد جدته" لذا طغت علينا صفة الآبائية، فعشقنا المألوف وقدسنا ما ألفينا عليه آباءنا في عصور التخلف، فصارت محاولات الابتكار "غير مجزية" بل و"نوعا من المغامرة المشكوكة النتائج". وساد الحكم على الأشياء بمعيار الأصالة أو الجدة دون نظر إلى الأشياء في حد ذاﺗﻬا، وغاب عنا أن الزمن ليس له صلة بالجودة أو الرداءة، ولا الجودة مرتبطة بجدة أو بقدم . وبناء على ذلك فإن السؤال الصحيح الذي ينبغي أن يسأل دائما هو: ماذا قيل؟ وليس من قال؟ أو أين قيل؟ أو متى قيل؟ كما هو شائع عند كثير من أصحاب التفكير الإمّعي الذي يرفضون الفكرة إذا كان مصدرها غربيا أو حديثا ويقبلوﻧﻬا إذا كان مصدرها تراثيا دون نظر في مدى صحنها ودون فحص لأدلتها. ومن نتائج التواكل الفكري: التفكير الهامشي وهو:"إشغال الإنسان فكره بقضايا خارجة عن دائرة نفوذه، وتأثيره، كأن يمضي الكثير من الوقت في حل مشاكل العالم دون أن ينهج في ذلك ﻧﻬجا علميا، ودون أن يكون له من المؤهلات والقدرات التي تمكنه من ذلك، أو أن يضيع الوقت في المناقشات البيزنطية العقيمة أو الصراعات التاريخية السالفة". فالميل إلى التفكير الهامشي إنما هو نوع من التعويض عن الكسل، والتقاعس عن الواجبات المناطة به، ومحاولة إقناع النفس بالانشغال بقضايا الأمة، وتاريخها، ونحو ذلك من الأمور،
٥- سطحية التفكير أما خامس وآخر مظاهر التخلف في العقل العربي بحسب تقسيم الدكتور يونس فهو سطحية التفكير والتي ينتج عنها قصر النظر تقويم الأمور بمردودها الآني ومن النتائج أيضا غياب العمق وهو:" غياب الطابع التجريدي في البحوث والأعمال ، وعدم العناية بالتفاصيل، والاقتصار على ما يسهل الوصول إليه، وعدم التنويع في مصادر المعرفة، وغياب التأصيل الفلسفي والنظرة الشمولية للموضوع، والعجز عن التنظير،والجهل بطبيعة المعرفة البشرية، وأصولها"ومن مظاهر سطحية التفكير صفرية الانطلاقة عدم الرجوع إلى ما فعله الآخرون، والابتداء دائما من نقطة الصفر ولا أدل على ذلك من غياب قواعد البيانات في مختلف التخصصات، وانعدام الفهرسة التي تسهل الرجوع إليها. ومن مظاهر سطحية التفكير الاهتمام بالكم على حساب الكيف حيث يقاس النجاح والجودة عندنا في معظم الأحوال بالعدد، وليس بالجودة، نرى هذا بوضوح في معايير التوظيف، والترقية، والتكريم، والمباهاة ، فزيادة العدد أو الحجم دائما هو الأهم، والاهتمام دائما ينصب (بنظرة مستدبرية لا مستقبلية) إلى "كم ُفعِل" وليس إلى "كيف سيفعل". ومن مظاهر سطحية التفكير أيضا شخصنة التفكير حيث ينحصر اهتمام كثير من الناس في ملاحظاﺗﻬم وتقويمهم للظواهر والأحداث في الأشخاص الذين لهم صلة ﺑﻬا بدلا من العناية بالأحداث والظواهر في حد ذاﺗﻬا. وتتوجه العاطفة (حبا أو بغضا استحسانا أو استقباحا رضا أو سخطا)، وكذلك الأحكام (قبولا أو رفضا) نحو الشخص الذي قام بالفعل أو كان موضوعا له. ويؤول هذا في ﻧﻬاية الأمر إلى التعلق بالأشخاص، وربما تقديسهم، أو التحامل عليهم ومحاربتهم، في الوقت الذي تكون فيه الحاجة ماسة إلى التعامل مع الأحداث والظواهر التي ارتبطت ﺑﻬا أسماؤهم. ومن مظاهر سطحية التفكير الحشو العقلي حيث ترتبط المعرفة عند الكثير من الناس بجمع أكبر قدر من المعلومات وتخزينها، فإذا كان العارف مدرسا نزع إلى حشو تلك المعلومات في ذهن طلابه، وهكذا تستمر العجلة في الدوران ولكن في مكان واحد. والضحية الأولى في هذا النهج التفكيري هي المنهجية والإبداع، والتعليم، والبحث العلمي. والنتيجة النهائية تخلف عام في كل مناحي الحياة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق