الخميس، 28 أبريل 2011

د.على جمعة يكتب : «أفيضوا مجالسكم بينكم»

- من وصايا سيدنا عمر بن الخطاب أن الناس إذا أرادت أن تبنى الوطن وأن تفيد الأمة وأن تعلو بشأنها أن يجلس الناس بعضهم إلى بعض، وألا ينقسموا أحزاباً يكره بعضهم بعضاً ويمتنع بعضهم من بعض لأنه يتبع الفريق المخالف، بل لابد عليهم جميعاً أن تتسع صدورهم وأن يسمع بعضهم من بعض، لأن فى صورة التشرذم لا يستفيد أحد من أخيه لأنه لا يسمعه أصلاً، وإذا سمعه يرفض كلامه، وإذا لم يرفضه يحاول جاهداً أن يثبت خطأه، فيضيع معنى النصيحة التى أكدها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى جعلها حقيقة الدين، فقال: «الدين
النصيحة، قالوا لمن يا رسول الله، قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم» (أخرجه الإمام مسلم فى صحيحه)، فالنصيحة هى التى تجعل للأمة معنى وهى التى تعطى الأمة علوها وشرفها، وهى التى تحافظ على بقائها ونتذكر قول النبى - صلى الله عليه وسلم - : «الحج عرفة»، فمن المعروف أن الحج له أركان سوى الوقوف بعرفة، وله بعد هذه الأركان واجبات وسنن وهيئات، ولكن الوقوف بعرفة ركن ركين لا يتم الحج إلا به حتى لو فعل كل أعمال الحج، فكذلك النصيحة لا يتم الدين إلا بها حتى لو قمنا بكل أعماله.
٢- وهذه الكلمة الشريفة من سيدنا عمر رواها الإمام محمد بن جعفر بن جرير الطبرى فى كتابه الجامع المانع «تاريخ الأمم والملوك» المشهور بتاريخ الطبرى عن ابن عباس، رضى الله عنهما، أن عمر قال للناس من قريش: «بلغنى أنكم تتخذون مجالس لا يجلس اثنان معاً حتى يقال مَن صحابة فلان، مَن جلساء فلان، حتى تحوميت المجالس، وأيم الله إن هذا لسريع فى دينكم، سريع فى شرفكم، سريع فى ذات بينكم، ولكأنى بمن يأتى بعدكم يقول هذا رأى فلان، قد قسموا الإسلام أقساماً، أفيضوا مجالسكم، وتجالسوا معاً، فإنه أدوم لإلفتكم، وأهيب لكم فى الناس اللهم ملونى ومللتهم وأحسست من نفسى وأحسوا منى ولا أدرى بأينا يكون الكون وقد أعلم أن لهم قبيلاً منهم فاقبضنى إليك (تاريخ الطبرى المجلد الثانى صفحة ٥٧٢، دار الكتب العلمية، تحت عنوان: «حملوه الدر وتدوينه الدواوين»).
٣- ففى هذا النص أن عمر لاحظ على جماعة من قريش الذين هم أهله وعشيرته أن بعضهم قد انقسم على بعض، وأن كل فريق كان يتجنب الجلوس إلى الفريق الآخر، وإذا دُعى أحدهم إلى لقاء سأل مَن صحابة فلان هذا؟ ومن جلساء علان؟ حتى يقرر الذهاب من عدمه، وبذلك تتم الفرقة ويجلس كل فريق يكلم نفسه لا يُطيق سماع الرأى المخالف، ولا النقاش، وبذلك يكون أحادى الرؤية لا يعيش إلا فى نفسه، ويؤدى هذا إلى ضيق الأفق وإلى التعصب الأعمى وإلى الكراهية، وإلى الضيق بمن حوله، ثم يقسم سيدنا عمر على أن هذه الحالة سوف تؤدى إلى هلاك الدين هلاكاً سريعاً وإلى هلاك العزة والكرامة والشرف، بل إلى هلاك الوحدة، بل إلى هلاك الذات، وأن هذه الحالة لا تؤثر سلباً فى العصر الذى حدثت فيه، بل إنها ستؤثر أيضاً على مستقبل البلاد، وسيأتى مَن بعدنا ويتمسك كل واحد منهم برأى فريق على حد قول الشاعر العربى أبى العلاء المعرى:
وينشأ ناشئ الفتيان منا
على ما كان عوده أبوه
وبذلك ينقسم الإسلام أقساماً بدلاً من أن يكون إسلاماً واحداً.
٤- ثم تأتى الكلمة البليغة «أفيضوا مجالسكم بينكم»، التى قد نطلق عليها فى عصرنا الحاضر «دعوة للحوار»، وإن كانت هذه الكلمة أكبر من ذلك، حيث تؤسس إلى تقديم مصلحة الوطن على أى اعتبار وتدرب على التعددية وقبول الآخر وتؤكد حرية الرأى وحرية التعبير، وأن الخلاف فى الرأى لا يفسد للود قضية، ولذلك قال بعدها: وتجالسوا معاً، وبيّن فوائد هذا، فقال: فإنه أدوم لألفتكم وأهيب لكم فى الناس.
٥- ويعبر سيدنا عمر عن الضعف البشرى الذى يصيب الجميع حتى لو كان ولياً من أولياء الله الكبار بقامة ومكانة عمر بن الخطاب، فيقول: اللهم ملونى ومللتهم، وهى كلمة وإن أظهرت ضجره من عصره ومن الناس، فإنها فى الوقت نفسه زاد ووقود لكل صاحب مسؤولية يعتليه الضيق ويستأخر النتائج ويمل من الخلق، فإذا عرف أن هذا ليس ضعفاً فيه، وإنما هو أمر من خصائص البشرية يعترى الأكابر والأصاغر، كان ذلك دافعاً له إلى أن يصبر ويحتسب ويتوكل على الله، ثم يقول: «وأحسست من نفسى وأحسوا منى»، أى أنه شعر من نفسه العجز والملل والضجر وأنهم أحسوا منه استمرار المتابعة والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر والإرشاد إلى الخير وما يمثل ذلك من نوع من أنواع الضغط الاجتماعى أو التسلط الأبوى الذى يتمنى كثير من الناس أن يزول، فيقول عمر: «ولا أدرى بأينا يكون الكون»، يعنى لا أدرى من سيكون أسبق منا لمغادرة هذه الحياة الدنيا ولقاء رب كريم، ثم يتمنى لقاء ربه، وهذا شعور لا يكون إلا من تقى محب لله، واثق من أن ما عند الله خير مما فى يده.
٦- إن مصر فى عهدها الجديد تحتاج إلى نصيحة عمر، فكأنه يعيش معنا ويرى طوائف الشعب المصرى وقد بدأت فيها الفرقة فى وقت نحن أحوج الناس فى العالم لأن يسمع فيه بعضنا بعضاً وأن يستفيد بعضنا من بعض، وأن نبحث جميعاً عن المشتركات التى تجمع ولا تفرق، وأن نتكلم فى التفاصيل ونُخرِج منها الشيطان الذى يجلس فيها بعد أن يفهم بعضنا بعضاً ويعذر بعضنا بعضاً، وأن نزيل النزاع على البقاء لأن تنازع البقاء يؤدى إلى الفناء، أما اللقاء فهو طريق البقاء.
أيها المصريون، عمر يناديكم فى عهدكم الجديد: «أفيضوا مجالسكم بينكم».

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق