الجمعة، 22 أبريل 2011

الكوميديا الأرضية /لذكي نجيب محمود

يحكى ان شاعرا كان اسمه "دانتى " ، عاش فى قديم الزمان وسالف العصر والاوان ،قد كتب قصيدة طويلة عظيمة أسماها له الناس من بعده " الكوميديا الالهية " طاف فيها بصحبة استاذ له قديم من الشعراء الاولين ، هو ( فرجيل ) طاف بالجحيم فوصف من شهده فيها من الاثمين وما شهده منصبا عليهم هناك من عذاب اليم .
ثم شاء الله – ولا راد لمشيئة الله اذا شاء – أن يبعث " دانتى " حيا شاعرا كما كان ، وأن يبعث معه (فرجيل ) دليلا هاديا كما كان ايضا ، وعادت لدانتى شهوته القديمة فى وصف الاهوال ، فكان ان زار بلدا يقال عنه انه بلد العجائب ، حتى اذا ما رجع الى بلاده عمد توا الى ما كان قد كتبه فى حياته الاولى ، وادخل عليه تغييرا وتحويرا يناسب العصر الحديث ، مستفيدا بما علمته التجربة فى بلد العجائب ، وادراكا منه بأن الشاعر الحق لامندوحة له عن مسايرة الزمن ، لكن هذه المرة أطلق العنوان بنفسه على قصيدته ، ولم يترك ذلك للأجيال القادمة ، كما قد فعل اول مرة ، ثم اختار عبارة " الكوميديا الاضية "عنوانا لقصيدته الجديدة .
وهاك خلاصة وافية لوصف الجحيم فى الكوميديا الاضية كما كتبها الشاعر القديم الحديث .

يقص علينا " دانتى " كيف سار فى صحبة دليله " فرجيل " حتى بلغا باب الجحيم الارضى ، فقرأ على قمة الباب هذه الاسطر الاتية مكتوبة بماء الذهب " ادخلوا الى مدينة الاحزان ، ادخلوا الى ارض العذاب ، ادخلوا بين من ضلت بهم السبيل الى ابد الابدين ، فيأيها الداخلون انفضوا عن انفسكم - عند مدخلى – كل رجاء" .

ويدخل الرجلان فاذا بالجحيم هوة سحيقة فى هيئة واد طويل مديد ، رأسه عند مركز الارض وقدمه على حافة البحر ، وجوانبه مدرجة درجات عراضا ، وعلى هذا الدرج حشر الاثمون ، ولايكاد الشاعران يدخلان ابواب الجحيم حتى يبلغا نهرا يسمى بنهر الاسف والاسى ، وعلى شطه الفيا نفرا يريد العبور الى الشاطئ الاخر ، وكان العبور تحت اشراف حارس فظيع بشع يجذب الناس جذبا قاسيا عنيفا ، وعيناه تدوران فى راسه كأنهما حلقتان من نار ، فلا يحتمل دانتى هذا المشهد الرهيب ، ويسقط فى اغماءة لايفيق منها الا على صوت رعد يقصف قصفا شديدا ، وعندئذ يعلم انه وزميله قد عبرا نهر الاسف والاسى ، حيث انتهى بهما العبور الى اولى حلقات الجحيم ، وها هنا وجدا عبدة المبادئ الذين انهكوا قواهم واضاعوا حيواتهم فى سبيل مبادئهم ، ولذلك فقد حق عليهم الحرمان من نعيم الفردوس ، واخذت تلدغهم الزنابير فى وجوههم واعناقهم ، فيصيحون من الالم ، ولايعرفون الى الطمأنينة والراحة سبيلا .

ويجتاز الشاعران هذه المرحلة ليجدا امامهما فريقا من الآثمين المجرمين ، وهو فريق أولئك الذين شغلتهم فى الدنيا عقولهم عن اشباع شهوات اجسادهم ، فعصفت بهم ريح شديدة فاخذتهم الراجفة كانهم الكراكى فى العاصفة ، وهنا يقول دانتى : " ها هنا بدأت اسمع صيحات الحزن والاسى ،فها هنا قد اتيت ال حيث الانات الشاكيات ، تقرع أذنى فتؤذيها ، اذ ها هنا أتيت الى مكان خفت فيه الضوء وزمجرت رياح عواصف ، كأنه البحر مزقته العاصفة برياحها الهوج ، وهبت فى جنبات الجحيم رياح عاتيه اخذت فى صورة الغضب تسوق امامها هؤلاء الاثمين سوقا فتدور بأجسادهم حتى الدوار ، وتدفعهم دفعا موجعا ........
وهنا سقط شاعرنا دانتى فى اغماءة اخرى ، لانه رقيق الحس كسائر الشعراء ، حتى اذا ما أفاق الفى نفسه فى الحلقة الثالثة من حلقات الجحيم – فى هذه الحلقه الثالثة اعد العقاب على من عف فلم يلحف فى السؤال عن حقه لدى اصحاب السلطان ، فشاهد الشاعران أولئك الخائبين الخاسرين وهم يتمرغون فى حمأة من الطين تحت وابل من المطر والثلج والصقيع ، بينما وقف صف من كلاب وحشية تنبح فى وجوههم وتعوى وتمزق جلودهم تمزيقا بأنيابها ومخالبها .
وبعدئذ سار الشاعران الى حيث الحلقة الرابعة من حلقات الجحيم ، فوجدا جماعة كانت تشتغل بالإصلاح فتفسد على غيرهم نعاسهم وأحلامهم ولذلك حقت عليهم اللعنة ونزل العقاب ، فرآهم الزائرون هناك يدحرجون جلاميد صخر عاتيات فى اتجاهين متقابلين ، ثم لا تلبث جلاميدهم ان يصدم بعضها بعضا ، ويعود كل جلمود كما كان اول أمره ، فينفجر الاشقياء المجرمون بالغضب من كثرة ما نالهم من نصيب واعياء ، ويلعن فريق منهم فريقا ، لان كل فريق يعتقد ان الفريق الثانى هو الذى اتلف عليه ما صنع .

وينتقل الزائران الى الحلقة الخامسة من حلقات الجحيم ، وقد خصصت لمن اخذ زمانه بالدقة فلا يؤخر موعدا ولا يؤجل عملا الى غد ، ويغضب ويحزن اذا ما رأى من المستهتر تراخيا وتفريطا – كان هؤلاء المغفلون يسكنون فى الجحيم قاع بحيرة من وحل .
يتنهدون فتنتفخ على سطح البحيرة فقاقيع لا تلبث ان تنفجر ، وقد قال منهم قائل حين احس مرور الشاعرين الى جانب البحيرة : " كنا ذات يوم حزانا على الفوضى الضاربة فى ارجاء البلاد . كنا رغم الهواء الحلو الذى كانت تبهجه اشعة الشمس ، نحمل فى اجوافنا نفوسا مظلمة وضبابا ثقيلا ، لذلك حق علينا الحزن فى هذا المكان القاتم "

وبعدئذ وصل الشاعران الى مكان الحلقة السادسة حيث ابصرا خلال الضباب الكثيف ابراجا وقبابا متوهجة بالسنة اللهب فقيل لهم ان هذا مدخل مدينة الشيطان ، وكانت طائفة من الجن قائمة على حراسة ابوابها ، ويدخل الرجلان بابا فاذا هما يشهدان سهلا فسيحا ملأته أجداث مكشوفة لا يسترها غطاء تتأجج فى كل منها تلتهمه لأن صاحبه كان حرا فى رأيه يعلنه كيف شاء ، فحقت عليهم جميعا هذه الفضيحة المنكرة لجرأتهم الشنعاء .

وبلغ الرحلان حدود الحلقة السابعة من حلقات الجحيم فهبطاها خلال شق من صخور ممزقة الجوانب ، حتى انتهيا الى نهر من دماء وقف فى لججه اولئك الحمقى الذين كانوا يتورعون فى حياتهم عن اعتراك الاحزاب السياسية ، ويقفون فى ركن هادئ يفكرون ، أو يمضون فى سبيلهم الجاد ينشئون ويعملون .
وكانت الحلقة السابعة ذات شقين ، فدخل الشاعران شقها الثانى ، وابصرا فريقا آخر من المغفلين الذين اخذتهم الغيرة فى سبيل الضعفاء والمرضى والمعوزين ، فهؤلاء قد انقلبوا فى الجحيم ،، اشجارا جافة قصيرة ، تتدلى منها ثمار مسمومة ، وكان كلما انكسر فرع من شجرة تدفق الدم كأنه ينصب من جسم مجروح وذلك جزاء ما احدثوه من قلق فى نفوس كانت آمنة مطمئنة.
وفى الحلقة الثامنة من حلقات الجحيم حشدت طائفة اولئك الذين كانوا لايرائون ولا ينافقون فى عالم خلق للرياء والنفاق ، فحق على هؤلاء الكفار عقاب شديد ، اذ غمسوا فى حفرة ملئت بقار يغلى ، وقد يحدث الفينة بعد الفينة ان يعلو الآثم بظهره فوق سطح القار من لذع الألم ، ثم يختفى فى سرعة أين منها لمحة البرق الخاطف .
فكما تقف الضفادع من بركة الماء عند حافتها ، لايبدو فوق الماء منها غير خياشيمها ، كذلك وقف هؤلاء الاثمون فى لجة القار ، ولكن سرعان ما يأتيهم الحارس فيغوص الجناة تحت الموج .

وقد شهد " دانتى " هنالك مشهدا رهيبا ، اذ شهد أحد الجناة يطفو ويطيل الظهور على سطح القار بعض الشئ ، فجاءه الحارس وأمسك بخصلات شعره وجذبها جذبا شديدا ، ثم القى به فى عنف طريحا حتى بدا له كانه كلب من كلاب الماء .
وفى الحلقة التاسعة حشر اولئك المجانين الافدام البلهاء الذين استنصحوا فى حياتهم فنصحوا بالحق ، فكل فرد من هؤلاء قد البسوه هناك قلنسوة ثقيلة من رصاص زخرفوه له بالذهب ، وكلما ثقلت القلنسوه على رأس الذنب حتى مال عنقه الى صدره ، الهبه الحارس بسوطه على ظهره ، قائلا له : اعتدل فان على رأسك طلاء من ذهب هو علامة الصدق فى القول والاخلاص فى العمل .

وفى الحلقة العاشرة والاخيرة من حلقات الجحيم ، شهد الشاعران – وياهول ما شهدا – شهدا فريقا من الناس اتوا فى حياتهم امرا ادا ، واقترفوا جريمة هيهات ان تجدا لها عند الله غفرانا ، هؤلاء هم الذين لم يتشفعوا بشفيع او يتوسطوا بوسيط وعملوا فى صمت ، مع ان الهو قد اراد لهم ان يصيحوا ويملأوا الدنيا جلبة كلما خطوا خطوة او نطقوا كلمة .
فكان جزاؤهم فى جهنم ان ينزلوا فى قاع الجحيم ، وهو بحر من ثلوج تبدو فيه اشباح المعذبين كأنما هى ذباب يضطرب فى وعاء من البلور ، وكتب عليهم هناك ان يقرض بعضهم عظام بعض من الجوع كما تفعل الكلاب الجائعة ، فهذا جزاء من يعمل صامتا معتمدا على نفسه ، فلماذا خلق الله للناس آذانا اذا لم يسمعوا بها صياح الصائحين ، ولماذا خلق لهم قلوبا اذا لم ترق لشفاعة المتشفعين ؟؟
وكانت الكروب عندئذ قد اضاقت صدر " دانتى " وطلب من دليله ان يسرع به الى حيث الفردوس ونعيمه .
فما هو الا ان وجد مركبة مغطاة بالزهر ، حماته مع زميله بين مروج من الخضرة اليانعة والقصور الشامخة والاكل الطيب وطمأنينة النفس وراحة البال .......... فها هنا يقيم من رضى عنهم الله من المنافقين اصحاب الشهوة المسعورة والكذب المبين والخداع والرياء .
وأفاق " دانتى " وهمس لزميله فرحا مستبشرا ، فقال : ادع لنا الله ان يهدينا الصراط المستقيم ، صراط الذين انعم عليهم بهذا النعيم .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق